اقترن اسم دبي بالابتكار، والتفكير خارج الصندوق، والرؤية المذهلة التي لا تتوقف عند حدود، أو تحد نفسها بسقف. وهذا جاء نتيجة مسيرة حافلة بالتجارب النوعية، التي تغلبت على منعطفات وتحديات عديدة، شهدها العالم، وألقت بظلالها على المنطقة.
ومن يراجع تاريخ دبي، يكتشف أن «الابتكار» و«التفكير خارج الصندوق» و«الرؤية الاستشرافية» والرهان على المستقبل، كانت على الدوام حاضرة في فكر ونهج القيادة.
ولعل كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في كتابه «قصتي.. 50 قصة في خمسين عاماً»، التي يسرد فيها مسيرة الإمارة عبر مختلف المحطات التاريخية تؤكد ذلك.
ويمكن لأي إنسان يتأمل هذه العبارات المتكررة («الابتكار» و«التفكير خارج الصندوق» و«الرؤية الاستشرافية») أن يحدس أنها عناوين رئيسة في لائحة «قيم دبي». أصيلة، وراسخة، وحاضرة في كل محطات مسيرتها. كما يمكن ملاحظة أن هذه العناوين تبني متفرقة ومجتمعة مفهوماً مركزياً، يمكن التعبير عنه بكلمة واحدة: «الإبداع».
لقد اعتمدت دبي طوال مسيرتها التنموية، وفي صنع نموذجها الفريد، على الإبداع، هذه الطاقة الهائلة، التي هي في الواقع أهم مصدر متجدد ومستدام للطاقة. وقد حظيت وعلى الدوام، بقيادة ارتقت بهذه المفاهيم.
وهنا، يجدر الانتباه إلى أن ارتباط دبي التاريخي بالإبداع، وجد تجسيده بارتباط الفكر القيادي في دبي، نفسه، بصنوف الإبداع، ولا سيما الشعر؛ فلم تكن مصادفة أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، هو شاعر مكرس، وصاحب منظوم فتح له القلوب، ومنحه نعمة مخاطبة الإحساس والتأثير به.
كما أنها لم تكن محض مصادفة أن سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس المجلس التنفيذي لإمارة دبي، هو بدوره شاعر يتسيد بحور الكلمة، ويمسك بناصية القوافي.
وهذا الارتباط التاريخي بين الفكر القيادي في دبي والإبداع، بالاقتران مع الرؤية التي تعتمد الابتكار وتفكر خارج الصندوق وتستشرف المستقبل، أحدث نقلة نوعية في النظرة العامة للثقافة والفنون وبقية صنوف الإبداع الإنساني، وأسس لوعي عصري يربطها بالتنمية، من خلال التأكيد على أثرها الاقتصادي في الحياة، وأقرها، واعتمدها، قطاعاً اقتصادياً أصيلاً، له استراتيجيته الخاصة، وتشريعاته الناظمة، وتسهيلاته المحفزة.
وفي هذا المجال، تكاملت رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في مسارات تضافرت لتؤسس لمنظومة شاملة، بثلاثة أركان: الإنسان، والإبداع، والأعمال.
محطات في الطريق
في الواقع، لم يكن الإبداع يوماً بعيداً عن اهتمام القيادة الرشيدة. ولكن هذا الاهتمام سجل طفرات نوعية في السنوات الماضية، ليحقق إنجازات مذهلة. وعليه، فإن من الأهمية بمكان استعراض أهم محطات هذا الاهتمام ومنجزاته:
مطلع سبتمبر العام 2019، وجه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بتعيين سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، رئيسة لهيئة الثقافة والفنون في دبي، «دبي للثقافة».
في أبريل عام 2021، أطلق صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي التي تستهدف مضاعفة مساهمة القطاع الإبداعي في الناتج المحلي الإجمالي لإمارة دبي من 2.6 % في نهاية 2020 إلى 5 % خلال خمس سنوات.
كما تتضمن الأهداف، مضاعفة عدد الشركات والمؤسسات الإبداعية والثقافية العاملة في القطاع الإبداعي من 8300 إلى 15 ألف شركة ومؤسسة بحلول 2025، وهو ما سيؤدي بدوره إلى مضاعفة عدد الوظائف التي يوفرها القطاع الإبداعي من 70 ألف وظيفة إلى 140 ألف وظيفة.
في مايو الماضي، وبتوجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، اعتمد سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس المجلس التنفيذي لإمارة دبي، «استراتيجية جودة الحياة في دبي حتى العام 2033»، وفيها أكثر من 200 مشروع ومبادرة وخطط داعمة، سيتم تنفيذها على ثلاث مراحل في الفترة من 2024 حتى 2033، وتشمل 10 محاور رئيسة تـعنى بجودة الحياة، يتصدرها محور الثقافة والترفيه.
مطلع يونيو الماضي، تصدّرت دبي مؤشر الاستثمار الأجنبي المباشر في الصناعات الثقافية والإبداعية لعام 2023، وذلك وفقاً لتقرير «إف دي آي ماركتس» الصادر عن فايننشال تايمز، ولتصنيف بيانات «مجموعة الصناعات الإبداعية» التابع للتقرير ذاته، حيث حافظت دبي على مكانتها كأفضل وجهة عالمية لخلق فرص العمل وتدفقات رؤوس أموال المشاريع في قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية من بين 115 مدينة تم تصنيفها ضمن التقرير، متفوقةً على مدن عالمية مهمة مثل: لندن، ونيويورك، وسنغافورة.
وهذا النجاح، جاء منعكساً في بيانات مرصد دبي للاستثمار الأجنبي، الصادرة عن دائرة الاقتصاد والسياحة بدبي، التي أكدت أن الإمارة نجحت في استقطاب 898 مشروعاً في قطاع الصناعات الثقافية والإبداعية خلال عام 2023، ما يعادل نحو ضعف الرقم المسجل في العام السابق بواقع 451 مشروعاً، فيما جاءت الترجمة المالية لذلك من خلال ارتفاع إجمالي تدفقات رؤوس أموال مشاريع الاستثمار الأجنبي المباشر في القطاع إلى 11.8 مليار درهم (3.21 مليارات دولار)، بزيادة نسبتها 60 % ، وخلق 21563 فرصة عمل جديدة من خلال هذه المشاريع في العام ذاته، ما يمثل زيادة بنسبة 74 % مقارنةً بعام 2022.
منارات ومبادئ وقيم
حرص صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، على تعزيز «الابتكار» و«التفكير خارج الصندوق» و«الرؤية الاستشرافية» على نحو واضح وجلي.
الرؤية التنموية الواضحة، التي قدمها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في كل مفاصلها لم تكن بعيدة عن الثقافة وصنوف الإبداع المختلفة. لذا، نمت دبي في عهده بتسارع منقطع النظير، وفي كل حركة نمو كانت تهزم مستحيلاً، وتحقق إنجازاً قياسياً على المستوى العالمي.
وكانت تلك الإنجازات مليئة بالمعاني. وفي محطة تالية لا تقل أهمية، ومليئة بالمعاني الجليلة، وجه سموه واحدة من أكثر الدعوات طموحاً وأهمية في عصرنا. الدعوة إلى استئناف الحضارة العربية الإسلامية.
وتتابعت مبادرات سموه في هذا المجال، من قبل وبعد، فهو القائد المعاصر، الأكثر التفاتاً إلى الحاجات الثقافية والروحية عند الإنسان، والأشد وضوحاً في فكره ورؤيته وقيادته في فهم أهمية موقع الإبداع في الاقتصاد الوطني.
هذا في الوقت الذي استسلم فيه الوعي العربي إلى الفكرة القائلة إن المال والأعمال وشؤون الحياة العملية، لا تلتقي مع الممارسة الثقافية والفنية والفكرية، وإن هذه الممارسة الثقافية والفنية والفكرية هي ترف لا مردود مادياً له. وجاء صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بمبادراته، وهدم هذا الوهم المضلل، وقدم الثقافة والفنون والفكر كقطاع اقتصادي مهم.
من هنا، جاءت خطوات سموه منهجية، عبرت عن نفسها باستراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي. المحددة بعناوين، والمجدولة زمنياً، والواضحة في مستهدفاتها، والطموحة في غاياتها.
مدرسة في القيادة
من المعروف عن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رعاه الله، أنه مدرسة في القيادة، ونهج في التفكير، وقد حرص دوماً على دعم كل ما من شأنه بناء الإنسان الإماراتي المتعلم، الكفؤ، والمؤهل.
لقد كان المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، من أوائل من التفت إلى بناء الإنسان، ولم يدخر وسعاً في السعي في هذا الاتجاه، وهذا ما سار عليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.
وكانت من ذخيرة سموه في الحياة، «ثلاثة دروس مع بداية حكم راشد»، عناوينها الإنسان والإنسان والإنسان؛ الإنسان الذي لا يتوقف عن التعلم. والإنسان الذي يصنع قادة من الرجال الذين حوله.
ويمكننا أن نقدر أن درس «الإنسان الذي يصنع قادة»، كان واحداً من أهم الـ«ثلاثة دروس مع بداية عهد راشد»، ومن أشدها حضوراً.
ولكن الأثر البليغ من بينها هو في السمات القيادية، التي يظهرها سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس المجلس التنفيذي لإمارة دبي، بقدرته الاستثنائية على تجسيد مدرسة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في القيادة، ونظرته المستقبلية، وقربه من الناس. وكذلك التزامه الواعي بالرؤية الناظمة لنماء دبي وتقدمها.
وفي الواقع، يمثل سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم أحد أهم المسارات المتعلقة بمستقبل دبي ورؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في هذا المجال. ومن هنا، فإنه من مواقعه كافة كان ولا يزال راعياً أولاً لدبي الإبداعية، ولاقتصادها الثقافي، ومن أكثر المتبحرين به، والمدركين لأهميته.
وفي هذا المجال، لا بد من القول إن دبي شهدت وتيرة متسارعة في النمو، في ظل رئاسة سموه لمجلسها التنفيذي، كما وجدت رؤى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، في شغفه الكبير لتطبيق الأفكار الاستثنائية، مدى أوسع في التحقق. وكان من ذلك، استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي، التي حظيت برعايته، واهتمامه، وحسن عنايته وتدبيره، التي مكنت هذا القطاع من أن يتجذر في دبي مدعماً بأرقام قياسية.
إن الشغف الذي يحمله سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، يمثل ضمانة مستقبلية لنمو قطاع الاقتصاد الإبداعي، الذي تنهي استراتيجيته مطلع أبريل المقبل سنواتها الخمس، بإنجازات وافية، لتنطلق إلى استراتيجية جديدة، تحمل عناوين مستقبلية، تبني على ما تحقق.
إدارة وقيادة
في سبتمبر الجاري، تتم سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم رئيسة لهيئة الثقافة والفنون في دبي، «دبي للثقافة»، خمس سنوات كاملة في موقعها تؤدي وتحقق التكليف الذي وجه به صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم. وقد شهدت الكثير من الإنجازات، التي اندرجت تحت عناوين عديدة متنوعة.
وقد كان لهذا الجهد، الذي ذهب مباشرة إلى تحقيق الأهداف، ووضع «استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي» قيد التحقق، أثره في إغناء النشاط الإبداعي في الإمارة، وإزالة الجدران ما بين الموهبة والإبداع الفني والثقافي والفكر من جهة، وعالم الأعمال من جهة ثانية. وبهذا قدمت سموها نموذجاً فريداً وغائباً في مساحتنا العربية، يدمج النشاط الثقافي والفني مباشرة بالعمليات الاقتصادية الجارية.
لم يعد النشاط الثقافي والفني مجرد ممارسة هامشية تخضع للأهواء الفردية، ولا ممارسة عشوائية، وإنما هي نشاط له أثر اقتصادي، ووفق ذلك تمكنت سموها من تحقيق الاعتراف الاجتماعي والاقتصادي بالأنشطة الثقافية والإبداعية كـ«أصول» يمكن ترجمتها إلى قيمة قابلة للتداول، أو قيمة للتقييم.
وفي الواقع، لم يكن أحد يتخيل الأبعاد المذهلة للمهمة التي أناطها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بسمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، حينما أوكل إليها مهمة رئاسة هيئة الثقافة والفنون في دبي، «دبي للثقافة»، وإعداد «استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي»، وتنفيذها.
لقد كانت هذه مهمة تستثمر في ذلك الارتباط التاريخي بين دبي والإبداع، يعزز من خلالها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ارتباط دبي بأفكاره الأساسية، التي طورها لتكون مبادئ وقيماً دافعة ومحفزة، ومنها: «اللامستحيل»، «الرقم واحد»، «الابتكار»، «التفكير خارج الصندوق»، «استشراف المستقبل». وهذه بالمناسبة، لم تكن أفكاراً طارئة، ولكنها عصارة فكر وخيارات قائد خبر وعرف مسيرة وتجربة دبي جيداً.
وهنا، لا بد من القول إن من أكثر التجارب الملفتة في إدارة الملفات الاستراتيجية، هي تجربة سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، في توليها ملف «استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي»؛ لقد طورت نهجاً في إدارة النشاط الثقافي، وتمكنت من استخدام رعايتها بفعالية لتوجيه الأشخاص المكلفين نحو تحقيق المستهدفات، واستطاعت أن تجعل من الدائرة التي أوكلت رئاستها إليها مرجعاً حاسماً في القطاع، ولربما أصبحت هذه الدائرة تحت رئاستها واحدة من أفضل دوائر ومؤسسات دبي تواصلاً وتفاعلاً مع الشركاء، فرادى (مبدعين) ومؤسسات، وكذلك إنتاج البرامج والمشاريع وتطبيق الاستراتيجية الموضوعة لها.
إن تجربة سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم في إدارة الملف الثقافي، وتطبيق رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في هذا المجال، حملت إلينا مبدأين: الأول، تنظيم العمل الثقافي وتكييفه مع العمليات التنموية، والنجاح في تثبيت موقعه قطاعاً اقتصادياً أصيلاً.
والثاني، ضبط العلاقة بين «المال والأعمال» من جهة، والإبداع من جهة أخرى لجهة الحفاظ على الطابع الروحي العام للثقافة والفنون، وهذا تسنى لسموها من خلال الموازنة الدقيقة ما بين دور الحكومة الأصيل الذي حافظت عليه، وقوانين السوق الفعالة التي شجعتها.
وبهذا، مع النموذج الذي قدمته سموها، اتسع مشهد دبي لدرجة أنه من جهة أصبح مقراً لدور المزادات العالمية وشركات الإنتاج، فيما أصبحت دبي حاضنة لفن الأماكن العامة، وعاصمة لموسيقى المترو في العالم، من خلال المهرجان الفريد والشهير، (الفعاليات التي تحتفي بالإبداع الفردي وبالمواهب الجديدة).
اليوم، تقف دبي في هذا الموعد على أعتاب العام الأخير من السنوات المحددة لـ«استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي». وهذا موعد مع نجاحات سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم في إدارة الملف الثقافي، وطريقتها اللافتة في تطبيق رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وتحفيز المجتمع المحلي، وإقناع مجتمع المال والأعمال بأن الثقافة والفنون هما قطاع اقتصادي أصيل.
ركائز وملامح تصوغ قصة الغد
تمثل «استراتيجية دبي للاقتصاد الابداعي» تجربة مهمة، ليس فقط على الصعيد المحلي، بل كذلك على المستوى العربي، والأمر ببساطة أن عدداً وافراً من الدول العربية تمتلك مقومات قوية لبناء اقتصاد إبداعي، ولكنها مع ذلك لم تخض تجربة الاستثمار في هذا القطاع، وتنظيم عملياته، ودمجها في الاقتصاد الكلي.
من هنا، فإن هذه التجربة بالكوادر التي عملت عليها، وبالمؤسسات والأفراد الذين انخرطوا فيها، أسسوا لخبرة نادرة في منطقتنا، وتشتد الحاجة إليها يوماً بعد يوم. وربما يكون هذا واحداً من الإنجازات غير المنظورة بعد، وهي تحويل دبي إلى «بيت خبرة» في بناء وإدارة الاقتصاد الإبداعي.
ومن هنا، فإن حقيقة أن البلدان العربية ذات الإرث والمخزون التراثي وصاحبة الزخم الكبير في الإنجاز الإبداعي لا تزال تعيش حالة من العشوائية في التعامل مع هذا القطاع، فإن تجربة دبي في هذا المضمار يمكن أن تشكل حافزاً ونموذجاً يحتذى به. وفي الواقع، يعد هذا إنجازاً غير مسبوق. وربما غير متوقع؛ فالخبرة المتحققة في هذا المجال، تذكر بما حققته مؤسسات أخرى، في دبي، عاملة في مجال الاقتصاد التقليدي.
على سبيل المثال ما راكمته «دبي للموانئ» من خبرة وقدرة على إدارة الموانئ. وتجدر هنا ملاحظة أن «استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي» في جانب منها، تقوم على استقطاب الكفاءات والمواهب والمبدعين والأعمال في قطاع الاقتصاد الإبداعي، وتهيئة الظروف والبنية التحتية لـ«الشركات الناشئة» العاملة في هذا المجال.
وقد وفرت حكومة دبي وفق «استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي» مساحات للأعمال والأنشطة الإبداعية ومجمعات متكاملة للتواصل بين أصحاب المجال الواحد، وإتاحة الإقامة الذهبية للمبدعين أسوة بالمستثمرين ورجال الأعمال.
ويعد «حي دبي للتصميم» مثالاً حياً على المجتمعات المتكاملة التي وفرتها حكومة دبي؛ وتبرز أهميته ليس فقط من أنه يوفر مجتمعاً للتواصل بين أعضاء المجال الواحد، المتعدد المتنوع، ولكن كذلك في أنه مجتمع يضع شركاء الأعمال المحتملين جنباً إلى جنب، وفي مكان واحد.
ومن المفروغ منه أن «حي دبي للتصميم»، الذي يضم اليوم معهداً متخصصاً وعاملاً، تأسس في وقت سبق وضع «استراتيجية دبي للاقتصاد الابداعي». وهذا يعيدنا إلى أن الأصل كان كامناً وموجوداً في فكرة الارتباط التاريخي بين دبي والإبداع، حيث توجهت عناية القيادة الرشيدة، مبكراً، إلى تأسيس بنية تحتية وأساس تشريعي يسمحان ببناء قطاع الاقتصاد الإبداعي.
ويسجل لـ«استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي» أنها تمكنت سريعاً من تحويل المتاحف والمكتبات من مجرد أصول جامدة، إلى وجهات يتفاعل معها الناس، وحواضن للفعاليات. كما أنها قادت إلى ضخ الدماء في طاقة التراث، بفنونه ومناسباته، وحولته إلى مفردة يومية متداولة.
وإن كان من شيء يمكن أن يقال هنا قياساً على هذه التجربة، فهو أن إمكانيات دبي في الاستثمار في قطاع الاقتصاد الإبداعي لا تزال كبيرة، وآفاقها غير منظورة، ولا يتحدد حجمها بالأرقام، ولكن بالأثر العميق الذي تحدثه، والمسارات الجديدة التي تفتحها.
وبالإشارة إلى هذه المسارات،فإن الاقتصادات الحديثة، المرنة، القادرة على مواجهة تقلبات دورة الأزمات العالمية، هي تلك التي تمتلك قطاع اقتصاد إبداعي أصيلاً.
وربما، هنا، يتوجب علينا أن نتذكر أن السنوات الخمس الماضية، شهدت في بدايتها انتشار وباء «كورونا»، في العالم، ورأينا كيف أن الاقتصاد الإبداعي، كان الوحيد تقريباً، مثل الماء والخبز، حافظ على موقعه، بل لعب دوراً جوهرياً في الحفاظ على الصحة النفسية للإنسان وثبات الأنظمة الاجتماعية في كل بقاع الأرض، وومن ثم تجاوز الأزمة.
لقد كانت وطأة وباء «كورونا» ثقيلة على العالم، ولكن الثقافة والفنون بأنواعها، التي تشكل قطاع الاقتصاد الإبداعي، أبعدت العقل الجمعي عن نظريات المؤامرة بكل ما يمكن أن تثيره من هلع.
وخلاصة تجربة الوباء تقول إن قطاع الاقتصاد الإبداعي هو قطاع سيادي، بحكم أنه أحد أهم ضوابط الأمن الاجتماعي، والحفاظ على ثبات المجتمعات. لذا، من الضروري التعامل معه باستراتيجيات متبصرة، مثل استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي.
وفي المسار الذي قطعته لغاية الآن، «استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي»، مساحات يمكن العمل عليها، تمثل بحد ذاتها فرصاً تاريخية. ومنها على وجه الخصوص حقوق الملكية الفكرية، التي لا تزال في عالمنا العربي حقلاً متروكاً بلا حرث، ولا سيما في الأدب، وكثير من مجالات المحتوى الأخرى.
وفي جانب آخر، تلامس اليوم دبي فكرة إعادة تسكين مجالات أخرى، حيوية، من الاقتصاد الإبداعي على أجندتها. وعلى وجه التحديد كل ما يندرج تحت عنوان «المحتوى»، سواء كان مطبوعاً أو منشوراً بالوسائل التقليدية أو الرقمية، أو مسموعاً أو مرئياً.
ومن المؤكد أن مثل هذه المهمة تحتاج إلى روح كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، ومعانيها الكبيرة الرشيدة، التي أكد من خلالها أن وظيفة الإعلام تنويرية، وليست دعائية أو توجيهية.
وهذا يقود إلى الإشارة بأن الشباب الإماراتيين اليوم يمتلكون منذ صغرهم ثقافة رقمية واسعة. بل يولدون وقد اكتسبوا هذه الثقافة بالسليقة. وبالتالي يمكن إيلاء اهتمام خاص إلى استثمار هذه الميزة الفريدة، ودفع النشء والشباب إلى اقتحام باب الأعمال في مجالات الإبداع المتعلقة بالشركات التي تقدم خدمات رقمية، لا سيما أن قطاع التواصل الاجتماعي الرقمي لا يزال يتسع للمزيد من التجارب.
وفي هذا الباب يمكن لمنظومة النشر، بتشريعاتها ومؤسساتها ومشاريعها، وباستلهام المزيد من الروح الإماراتية المتسامحة، أن تحفز على خلق وإيجاد علامات إماراتية عالمية في المجال الرقمي. لقد أصبح المحتوى اليوم، بإنتاجه وقدرته على التحرك والانتقال، رديفاً للمرونة والقوة الاقتصادية، وعلامة عليها. كما أنه أصبح واحداً من أدوات الحكم الرشيد.
لقد تعلمنا من صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، التفكير بالمستقبل، ومحاولة استشراف فروضه ومقتضياته، ومحاولة التجهز لها سلفاً. وتعلمنا من سموه، أيضاً، أن الناجح من بين الناس ليس ذاك الذي يكتفي بما يغدق به عليه الحاضر، بل ذاك الذي يفتح له المستقبل ذراعيه، مرحباً به.. أي من ينتدبه المستقبل، ويَكِل إليه مهمة صناعة الغد!