تعهدت حكومتا أستراليا، وولاية كوينزلاند، مؤخراً، بتخصيص 940 مليون دولار أسترالي (620 مليون دولار أمريكي) لدعم تطوير حاسوب كمي ضخم بالقرب من مدينة بريسبان بوساطة شركة «بي إس آي كوانتوم».
وتعد الصفقة أحدث مؤشر على أن الحلم القديم بنموذج جديد من الحوسبة يستفيد من السمات الفريدة لميكانيكا الكم الذي يمتد لعقود قد يتحقق أخيراً. وأكد بيت شادبولت، رئيس القسم العلمي لدى شركة «بي إس آي كوانتوم»، أن النظام في أستراليا سيكون أول جهاز يعبر بوابة الدخول ليصبح حاسوباً فعالاً بجدارة، أي أول نظام كمي في العالم ذي فائدة تجارية.
ولا يعد شادبولت الوحيد الذي قدم تأكيدات واسعة حيال جيل من الحواسيب التي من المقرر بناؤها قبل نهاية هذا العقد، ما يشير إلى جهد متسارع نسبياً لتطوير مجال كان قد واجه نصيباً كبيراً من العقبات منذ أن اقترح البروفيسور ريتشارد فاينمان فكرة الحوسبة الكمية للمرة الأولى قبل 65 عاماً.
وكان أحد أبرز التحديات عدم استقرار البتات الكمية، أو الكيوبت، المستخدمة في الأجهزة الحالية إلى حد كبير، ولا تحتفظ بحالتها الكمية سوى لفترات قصيرة جداً، ما يتسبب بإحداث «ضوضاء»، وبالتالي تتراكم الأخطاء أثناء أي حساب كمي، ما يجعل الحاسوب عموماً غير فعال.
وبرزت أحدث التطورات في تصحيح الأخطاء، عبر تقنية لترميز المعلومات إلى كيوبت للتخفيف من المخاطر، ما يقدم وعداً للتصدي لهذه المشكلة في وقت أسرع مما توقعه غالبية العاملين في الصناعة.
ومن بين الشركات الأخرى التي تضع نصب أعينها تحقيق إنجاز جديد في السباق الكمي شركة «آي بي إم» التي تعمل على تطوير أنظمة كمية تجريبية منذ سنوات. وفي أواخر العام 2023، وضعت لأول مرة خريطة طريق للوصول إلى نظام عملي يعمل بكامل طاقته.
وقال جاي غامبيتا، نائب رئيس قسم الحوسبة الكمية لدى شركة «آي بي إم»: «اعتقد أن لدينا مساراً قابلاً للتطوير لإثبات وجود حاسوب كمي يتدارك الأخطاء» بحلول العام 2029. وقال سكوت آرونسون، مدير مركز المعلومات الكمومية بجامعة تكساس: «لم يسبق لأحد دمج نظام يحتوي على ملايين الكيوبت، كان أكبر عدد هو بضعة آلاف».
ولسنوات عديدة، بدت التنبؤات بالوقت المحدد الذي ستحقق فيه الحوسبة الكمية الفائدة العملية مسعى لا طائل منه. وتبددت الآمال المتعلقة بالقدرة على برمجة جيل سابق لما يسمى بالأجهزة الصاخبة – أنظمة ذات كيوبت غير مستقرة، ما أدى إلى إنهاء واحدة من السبل المؤدية إلى التطبيق العملي.
وحتى بعض الإنجازات البحثية البارزة التي تبدو مهمة لم تؤد إلى النتائج المرجوة، ففي العام 2019، عندما ادعت شركة غوغل أنها بلغت «التفوق الكمي» - المرحلة التي تتفوق عندها أنظمة الكم على أجهزة الحاسوب التقليدية، اتضح أن الطرق الجديدة لبرمجة الأجهزة الحالية يمكنها القضاء على هذه الميزة. ومع ذلك، يعتقد الكثيرون في الصناعة الآن أنه خلال الأشهر الأخيرة، ظهر مسار واضح لبناء أنظمة واسعة النطاق من شأنها أن توفر فوائد فنية وتجارية ملموسة. وأدت سلسلة من الإنجازات البحثية، بدءاً بجهود غوغل العام الماضي، إلى إحراز تقدم هائل في تصحيح الأخطاء قبل سنوات مما كان متوقعاً. وعززت نتائج الأبحاث التي توصلت إليها جامعة هارفارد، ومجموعة «كيوإرا» ومقرها بوسطن في نهاية العام 2023، إلى جانب ورقة بحثية أصدرتها هذا العام مايكروسوفت وشركة كوانتينوم ومقرها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، من التفاؤل.
وقال ستيف بريرلي، رئيس شركة «ريفرلين»، وهي شركة بريطانية ناشئة متخصصة في مجال الكم: «خلال العام الماضي، شهدنا قدراً كبيراً من التقدم في الصناعة، وخاصة فيما يتعلق بتصحيح الأخطاء». وأضاف أن هذا أدى إلى خفض عدد الاكتشافات التقنية التي لا يزال يتعين تحقيقها، قائلاً: «لكن يبدو الأمر على نحو متزايد أشبه بمشكلة هندسية وليس مشكلة علمية». وتمثلت إحدى النتائج لذلك في سباق جديد لتوسيع نطاق أنظمة الأجهزة الكمية الحالية لتتمكن من التعامل مع الخوارزميات الناجعة التي تعتقد شركات، مثل آي بي إم، أنها ستنتج قريباً.
ويشكل استثمار أستراليا في «بي إس آي»، في صورة أسهم بالشركة بالإضافة إلى المنح والقروض، رهاناً استثنائياً على الكيوبت المستندة إلى الفوتونات، بدلاً من الكيوبت فائقة التوصيل التي تستخدمها شركتا «آي بي إم» وغوغل. وثبت أن الفوتونات توفر قاعدة مستقرة للنظام الكمي، ومع ذلك، نشرت شركة «بي إس آي» القليل من الأبحاث سابقاً لتظهر مدى التقدم الذي أحرزته لتجاوز العديد من تحديات المعدات الحاسوبية، وفق ما قال آرونسون من جامعة تكساس.
وفي محاولة لوأد تلك الشكوك، نشرت «بي إس آي» هذا الأسبوع، أول ورقة بحثية توضح الخطوط العريضة لتطورات المعدات الحاسوبية التي ادعى شادبولت أنها وضعتها على الطريق الصحيح نحو إنشاء نظام عملي واسع النطاق بحلول نهاية العقد.
ومع تحول التركيز نحو التطبيق العملي لإنتاج أعداد كبيرة من الكيوبت والرقائق الكمية، فضلاً عن الأجهزة الأخرى اللازمة لربطها معاً في أنظمة أكبر، تؤكد شركة «بي إس آي» كذلك على مزايا تقنية الفوتونات التي ستسرع من تطويرها نظام يحتوي على مليون كيوبت مقارنة بالآخرين في الصناعة.
وقال بريرلي، إن ثمة مؤشراً إيجابياً للصناعة خلال مسيرتها نحو التصنيع التجاري، إذ تتشكل سلاسل توريد أكثر تطوراً في الأجهزة الكمية مع انتقال التكنولوجيا من مرحلة المختبر. ورغم التطلعات الجديدة، يعترف خبراء مثل غامبيتا من «آي بي إم، بأن خططهم لتحقيق الحوسبة الكمية المتكاملة قد تخرج عن مسارها الصحيح. وذكر أن التنبؤ بموعد حدوث اختراقات خوارزمية لجعل تصحيح الأخطاء عملياً يعد أكثر صعوبة من وضع خريطة طريق لتوسيع نطاق الأجهزة. ومع ذلك، أوضح أنه حال تمكنت شركة آي بي إم، من إظهار أولى نتائجها العملية للحوسبة الكمية خلال العامين المقبلين، فقد يسهم ذلك في إثارة موجة جديدة من الاهتمام في عالم الشركات.
وقال آرونسون: «لقد حدد الأفراد خططاً على الورق، إلا أن الأشياء التي يتنبأ بها الخبراء التجريبيون دائماً تستغرق وقتاً أطول مما يعتقدون، لكن بعد التطورات الأخيرة، تبدو أن صناعة الحوسبة الكمية الناشئة لديها فرصة حقيقية لتحقيق فائدة عملية للمرة الأولى».