في سوق مفتوح للتطبيقات والبرامج، يعد الصراع على منصات التواصل الاجتماعي أشد الصراعات فتكاً بين الشركات الكبرى المسيطرة على الأسواق، ويصل الأمر إلى حد التنازع غير الشريف بين الشركات لمحاولة تدمير الناشئين أو الاستحواذ عليهم للانفراد بالقمة، وهو ما ينجح في بعض الأوقات، وفي أوقات أخرى ينقلب ضد الشركات، وأحياناً ينقلب ضد المستخدم ذاته أو صانع المحتوى.
ومنذ بداية صراع التواصل الاجتماعي والاستحواذ الأمريكي على تلك المنصات التي تعد منجماً للذهب المعلوماتي، متواصل ومستمر، دون مساحات للآخرين، حتى داخل أمريكا لا تعطي الحيتان الكبيرة فرصة للأسماك الصغيرة كي تعيش في فضاء التواصل الاجتماعي بمختلف شرائحه. ففي البداية صعد إلى الساحة في 2010 تطبيق للتواصل الاجتماعي مختص بالصور لمبرمجين شابين هما كيفن سيستورم ومايك كرينغر والذي أسمياه إنستغرام، ليصعد التطبيق بسرعة الصاروخ ويتربع على عرش التطبيقات ليصل عدد مرات تحميل التطبيق في غضون عام واحد إلى مليون تحميل، وهو الأمر الذي قوبل بالرفض والاستنكار من مالكي تويتر وفيسبوك وكان تويتر وقتها «إكس» حالياً مملوكاً لمجموعة «أوديو»، بينما امتلك مارك زوكربيرغ تطبيق فيسبوك، وكلاهما اعتبر إنستغرام منافساً مباشراً لتطبيقيهما، الأكثر انتشاراً وتنافساً في ذلك الوقت. وأعدت مجموعة أوديو المالكة لتويتر عرضاً رسمياً للاستحواذ على «إنستغرام» بقيمة 500 مليون دولار، إلا أن لقاءً جمع بين سيستورم مالك إنستغرام وزوكربيرغ مالك فيسبوك في حفل أقيم بمدينة ستامفورد، أوصل الثنائي لاتفاق على استحواذ فيسبوك على إنستغرام بصفقة بلغت قيمتها مليار دولار في 2012، باتفاق أن تظل إدارة إنستغرام دون تغيير وتدار بشكل منفصل عن فيسبوك كمرحلة انتقالية، وفي نهايتها يدفع فيسبوك مليار دولار آخرى للاستحواذ الكامل على الشركة.
والأمر ذاته حاولته شركة ميتا حالياً، تحت مسمى «شركة فيسبوك» في 2013 مع تطبيق سناب شات عندما تقدمت بعرض للاستحواذ على التطبيق الصاعد بقوة في ذلك الوقت بقيمة وصلت لـ 3 تريليونات دولار، وهو العرض الذي قوبل بالرفض من إيفان سبيغل مالك تطبيق سناب شات، وكان غرض فيسبوك وقتها الاستحواذ على طبقة المراهقين التي ذاع صيت التطبيق الأصفر بينهم. وبسبب فشل صفقة استحواذ مارك زوكربيرغ على سناب شات، استنسخ أغلب الخصائص المميزة لتطبيق سناب شات في تطبيق إنستغرام، ومن أبرز تلك الخصائص خاصية الستوري اليومي التي اشتهر بها سناب شات، الأمر الذي تسبب في أضرار جسيمة لسناب شات، ووفقاً لـ «ياهو فاينانس» تضررت أسهم الشركة المالكة، وبات من غير الممكن في الوقت الحالي أن تتحصل على عرض بالقيمة نفسها التي رفضها سبيغل في 2013. أما تطبيقات التواصل النصي المباشر فكانت أيضاً محل صراع، وبعدما لمع نجم تطبيق «واتساب»، الذي بدأ عن طريق شابين أوكرانيين هما برايان أكتون وجان كوم كوم في 2009، والذي كان هدفه تبادل الرسائل بين الموظفين وفي الوقت نفسه متابعة هواتفهم ونشاطهم في العمل في وقت لم تكن فيه سرية البيانات والأمن السيبراني بالقدر نفسه الموجود حالياً، واستثمرت شركة «سيكويا» الأمريكية في التطبيق بضخ 8 ملايين دولار في البداية، ثم 50 مليون دولار فيما بعد لوصول التطبيق إلى كل الأجهزة الذكية، إلا أن التطبيق واجه أزمة خسارة في البورصة في 2013، بخسارته 138 مليون دولار بعد تعثرات في المدفوعات، نتيجة طرح نسخة مدفوعة وخدمات مقابل اشتراك، لم تلق قبولاً وقتها، الأمر الذي جعل مارك زوكربيرغ ينقض على التطبيق ويقدم عرضاً بـ19 مليار دولار للاستحواذ على واتساب وإلغاء الخدمات المدفوعة، وطرح خدمات جديدة للاتصال الصوتي والمرئي «فو أو آي بي»، وتستحوذ بعدها مجموعة زوكربيرغ على كم هائل من بيانات المستخدمين، الأمر الذي عرض زوكربيرغ ومجموعته لغرامة مالية بقيمة 122 مليون دولار من قبل الاتحاد الأوروبي، بسبب استخدام بيانات المستخدمين لتطبيقاته في أغراض سياسية أو بحثية.
وخلال السنوات الماضية حاولت كل الشركات الأمريكية الاستحواذ على تطبيق تيك توك الصيني، إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل، واستخدمت الشركات الأمريكية كل الطرق الشرعية والملتوية للتأثير على تيك توك وجعل ملاكه يرضخون للاستحواذ أو الشراكة، وحاول مارك زوكربيرغ وشركة ألفا بيتا المالكة لجوجل استنساخ خصائص تيك توك، الأول بخاصية الريلز عبر «كروس بلاتفورم» وعرضها على إنستغرام وفيسبوك مما يشجع المستخدمين بانتشار أكبر ويدفعهم لترك تيك توك، بينما ألفا بيتا مالكة شركة «جوجل» طورت مع يوتيوب خاصية الـ«شورتس» وأغرت بها صناع المحتوى، مع وعد بمكاسب كبيرة، إلا أن كلاهما لم ينجح في خفض شعبية تيك توك أو إجبار الصين على التنازل عنه للشركات الأمريكية، كما لم تؤثر حملات المنع في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الحليفة في استمرارية تيكتوك.
وكان قد تردد أيضاً محاولة جوجل تقديم عرض للاستحواذ على تليغرام من مالكه الإماراتي الروسي بافل دوروف مقابل مليار دولار، إلا أن مالك تليغرام قد نفى ذلك في وقت سابق، معتبراً أن الرقم الذي تردد خير كاشف لكون العرض كاذب، لكون قيمة التطبيق أعلى بكثير من المليار دولار على حد قوله في 2019، قائلاً في تصريحات صحافية تناقلتها وكالات الأنباء في ذلك الوقت «عرض جوجل الاستحواذ على تليغرام، كلام فارغ، لم أتلقى أي عرض، ولم يحدث تواصل من أي نوع، ولم نتحدث في أي أمور تخص أي استحواذ».
في الوقت نفسه حاولت أيضاً مايكروسوفت الدخول لذلك المجال والاستحواذ على منصة تويتش، وهي منصة خاصة بمتابعي البث والألعاب وغيرها من تلك الأمور، وعندما لم تستطع الاستحواذ على تويتش أنشأت تطبيقاً مستنسخاً من تويتش وأسمته «ميكسر» ودعت كبار صناع المحتوى الموجودين على تويتش لترك التطبيق والبث بشكل حصري عبر «ميكسر» بعقود تحمل شروطاً جزائية، وفعل ذلك العديد من صناع المحتوى لفترة، قبل أن يبدأ التطبيق في الانهيار والخسارة، ويغلق أبوابه، ويعود صناع محتوى الألعاب مجدداً لتويتش، واستحوذت أيضا مايكروسوفت من قبل على برنامج لينكد إن، المعني بالتواصل الاجتماعي لفئة الأعمال، وهو التطبيق الذي يعد الأقدم بين تلك التطبيقات وتأسس كموقع في البداية عام 2003.
وفي اللعبة بين الحيتان الكبرى في أمريكا والأسماك الصغيرة حول العالم فصول وفصول لا تنتهي ولم تنتهِ، فكلما صعد منافس في مجال التواصل الاجتماعي وبيانات المستخدمين لن تتركه أمريكا لو كان غير أمريكي، وستسعى لضمه للكيانات الاعتيادية الكبرى بأي شكل لو كان أمريكياً.. فهل تستمر تلك اللعبة مع الكيانات نفسها أم سيشهد العصر المقبل تغييراً في الاستراتيجيات والاستحواذات على التطبيقات التكنولوجية المعنية بالتواصل الاجتماعي؟!