Al Bayan
today-time09 رمضان 1446 هـ ، 9 مارس 2025 م
prayer-time

أوروبا تغيب عن التنافس الأمريكي الصيني حول الذكاء الاصطناعي

جانان غانيش

ثمة تفسيران متناقضان حول تطبيق «ديب سيك» يطفوان على السطح حالياً، وكلاهما يبدو منطقياً. الأول يرى أن الصين، التي اضطرت للاعتماد على قدراتها الذاتية، بسبب القيود الغربية، بدأت تكشف نقاط ضعف جوهرية في قطاع الذكاء الاصطناعي الأمريكي، الذي يبدو أنه أصبح مترهلاً ومعتمداً بشكل مفرط على موارده الوفيرة، أما التفسير الثاني فيدعو الأمريكيين إلى الهدوء، مشيراً إلى أن القوة المالية الهائلة للولايات المتحدة، إلى جانب قدرتها الفريدة على جذب واستقطاب المواهب العالمية، ستضمن تفوقها في نهاية المطاف.

اللافت للنظر في كلا التفسيرين هو ذلك الغياب الملحوظ لأوروبا عن النقاشات المحتدمة، رغم قوتها الاقتصادية، التي تضاهي الصين والولايات المتحدة، وعلى الرغم من نجاح شركات أوروبية في مجال الذكاء الاصطناعي مثل «ميسترال» فإن دور القارة على الصعيد العالمي آخذ في التراجع، ليبدو أشبه بطفل عاجز يراقب خلافات والديه، في إشارة إلى الصراع الأمريكي الصيني المتصاعد، لكن لماذا وصلت أوروبا إلى هذا الوضع؟ تتعدد التفسيرات، فالبعض يعزو الأمر إلى الإفراط في القوانين والإجراءات التنظيمية، بينما يرى آخرون أن عدم اكتمال السوق الأوروبية الموحدة يضعف القوة الاقتصادية لنصف مليار أوروبي رغم مستوى معيشتهم المرتفع، وهناك من يرجع الأمر إلى غياب ثقافة ريادة الأعمال، وبغض النظر عن أهمية كل عامل فإنها جميعاً خيارات اتخذتها أوروبا طواعية، ما يقود إلى استنتاج صعب بأن القارة تفضل التخلي عن جزء من حيويتها الاقتصادية مقابل مميزات أخرى.

يفسر هذا التوجه الأوروبي سبب صعوبة نجاح إيلون ماسك ونظرائه من رواد وادي السيليكون المقربين من دونالد ترامب في التأثير على السياسات الأوروبية، رغم محاولاتهم المستمرة، فأيديولوجيتهم القائمة على الحرية التقنية المطلقة لا تجد آذاناً صاغية في القارة الأوروبية، حتى بين صفوف اليمين المتطرف - بل خاصة بينهم، ويتجلى هذا بفرنسا في موقف مارين لوبن، التي تدعم النقل العام المجاني للعمال الشباب، فمن المستحيل تخيلها تتخذ قراراً بتجميد المنح والقروض الحكومية على غرار ما حاول ترامب فعله، بل إن جورجيا ميلوني، المعروفة بتوجهاتها الإصلاحية المؤيدة للسوق الحر، أمضت معظم وقتها منذ جائحة كورونا في توزيع أموال الاتحاد الأوروبي على المواطنين والشركات.

في أوروبا ثمة ارتباط وثيق بين النزعة القومية ومفهوم الدولة الراعية، وهو أمر يختلف تماماً عن التجربة الأمريكية، وقد تجلى هذا تاريخياً في ألمانيا الإمبراطورية تحت حكم بسمارك، الذي كان رائداً في تأسيس نظام دولة الرفاه الاجتماعي، حتى المملكة المتحدة، التي ينظر إليها كأقرب الدول الأوروبية للنموذج الأمريكي، لا تشكل استثناء، فقد كان قرار «بريكست» في جزء منه مبنياً على افتراض أن البريطانيين يشبهون الأمريكيين في عشقهم للرأسمالية الحرة، وأن قيود بروكسل هي ما يمنعهم من إطلاق هذه الطاقات، لكن مع حلول الذكرى الخامسة للخروج الرسمي، أمس، يتضح أن أياً من الحكومات البريطانية المتعاقبة لم تكن تجرؤ سياسياً على إجراء تخفيضات كبيرة في الإجراءات التنظيمية، بل إن أشد المحافظين تطرفاً يدركون أن مجرد تقليص يوم واحد من الإجازات المدفوعة القانونية سيؤدي إلى احتجاجات عارمة، وأن معظم المحتجين سيكونون من مؤيدي البريكست أنفسهم، وهذا يوضح أن مصطلح «يميني» في السياق الأوروبي يختلف جوهرياً عن مفهومه في أمريكا.

وحتى داخل إدارة ترامب هناك تباين فكري بين رجال التقنية الداعمين للتحرر الاقتصادي، وبين حركة «ماجا» المؤيدة للعمال. ومع ذلك يجمعهم جميعاً الولاء للنزعة القومية الأمريكية، لكن ما الذي قد يربط إيلون ماسك باليمين المتطرف في أوروبا؟ هل يمكن أن يكون موقفهم المشترك من بعض القضايا الثقافية؟ يبدو أن ذلك غير كافٍ لتجاوز اختلافاتهم الجوهرية حول العلاقة المثلى بين الفرد والدولة.

صحيح أن كلا الطرفين يستفيد من ضعف الاتحاد الأوروبي أو حتى انهياره، حيث سيخفف ذلك القيود التنظيمية على قطاع التكنولوجيا في وادي السيليكون، لكن الاعتقاد بأن الشركات التقنية ستجد بيئة أكثر مرونة في أوروبا المجزأة تحت قيادة شعبوية هو تفكير لا يمكن أن يتبناه إلا من يجهل تماماً، على سبيل المثال، سياسات مارين لوبان الاقتصادية عبر السنين.

ولم تكن فكرة إنشاء تحالف شعبوي عابر للأطلسي جديدة، فقد حاول ستيف بانون، أحد حلفاء ترامب، تنفيذها في العقد الماضي، لكن هذه المشاريع غالباً ما تفشل، والسبب واضح، فعندما تكون الفكرة الأساسية لحركة ما هي تعظيم السيادة الوطنية، وتأكيد القوة القومية، فإن فروعها المختلفة حول العالم ستجد نفسها حتماً في حالة صراع، فالمطالب التوسعية لدولة ما تتعارض مع مصالح دولة أخرى، ورغبة زعيم ما في اختراق شركاته التكنولوجية للأسواق العالمية تصطدم بمخاوف زعيم آخر وكبريائه القومي.

ويكفي النظر إلى التاريخ: الحرب الروسية اليابانية، وعملية بارباروسا، والصراع السوفييتي الصيني، كلها أمثلة على كيف أن الفكر الليبرالي نجا بفضل النزعة الانقسامية المتأصلة لدى أعدائه. صحيح أن ترامب ولوبن وأمثالهما ليسوا في مستوى تلك الأحداث التاريخية، لكن المبدأ نفسه يبقى قائماً: القوميون المتعصبون مصيرهم الصراع والانقسام، ولذلك فكرة «الأممية القومية» ستظل وهماً مستحيلاً.
في الماضي القريب كان المحافظون الأوروبيون يعرّفون هويتهم السياسية، من خلال معارضتهم للولايات المتحدة، التي اعتبروها قوة تمارس الهيمنة الثقافية رغم افتقارها للعمق الثقافي. وحتى خلال ذروة الحرب الباردة، عندما كان البديل هو الشيوعية، حافظت شرائح من اليمين الأوروبي على مسافة من واشنطن.

وكان الجمهوريون الأمريكيون آنذاك يشعرون بهذا التجاهل ويتأثرون به، أما اليوم فنرى أن فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، الذي يُعد أقرب قادة الاتحاد الأوروبي إلى الصين، يحظى مع ذلك بأكبر شعبية لدى اليمين الأمريكي المتشدد المناهض للصين، وسواء كان هذا الموقف المزدوج يعكس براعة أوربان السياسية أم قصر نظر الجمهوريين الأمريكيين المعاصرين، فإنه يقدم درساً في كيفية اختلاف الرؤى الجيوسياسية للشعبوي الأوروبي عن نظيره الأمريكي.

لا تعني هذه القراءة أن على الليبراليين الشعور بالاطمئنان، فاليمين الأمريكي يمتلك من الموارد ما يكفي للتأثير بشكل ملموس على الساحة السياسية في أوروبا، ومع اقتراب الانتخابات الألمانية يحظى حزب البديل من أجل ألمانيا باهتمام شخصي من إيلون ماسك، مما يزيد من حضوره الإعلامي وتأثيره، لكن هذه تظل مجرد تكتيكات مرحلية، فالتحالف الاستراتيجي طويل المدى، أو ما يمكن تسميته بالثورة المستوردة من أمريكا، يتطلب تناغماً في الرؤى والأفكار، وهو أمر غير موجود على أرض الواقع. وحتى لو نجح اليمين المتطرف الأوروبي فلن يكون ذلك بفضل متدخلين أجانب تؤدي هويتهم الأجنبية نفسها إلى نفور شعبي، فقد اعتمدت الليبرالية دائماً في بقائها على حقيقة ثابتة: أن أعداءها سرعان ما يوجهون عدائيتهم نحو بعضهم بعضاً.