تيج باريخ
لا تبدو التوقعات الاقتصادية الكندية على المدى القريب مبشرة، فالخطة الأمريكية لفرض رسوم جمركية بنسبة 25 % على السلع الكندية، قد تؤدي إلى تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي الكندي بنحو 4 نقاط مئوية خلال عامين، وذلك بافتراض التنفيذ الفعلي لهذه الرسوم، ورد كندا بالمثل، حسب تقديرات البنك المركزي الكندي. لكن هناك وجهة نظر قائمة منذ عقود، تذهب إلى أن الدولة العضو في مجموعة السبع، يمكن لها أن تصبح قوة اقتصادية عظمى، وفقاً لأجندة سياسية طموحة.
وتعد كندا ثاني أكبر بلدان العالم من حيث المساحة، وتتمتع بأطول شريط ساحلي، مقارنة بدول العالم قاطبة. ويحد البلاد المحيطان الهادئ والأطلسي، ما يجعلها مثالية للتجارة العالمية.
ويعتقد ماركو بابيك كبير الخبراء الاستراتيجيين لدى «بي سي إيه ريسيرش»، أن كندا قد تكون أفضل حالاً في عالم أكثر دفئاً. وقال: «يمكن للاحتباس الحراري أن يزيد من المحاصيل الزراعية، وأن يفتح المجال لأجزاء شاسعة من البلد أمام التنقيب عن المعادن، وأن يسمح بمسارات تجارية جديدة عبر القطب الشمالي».
ومن المهم الإشارة إلى استقلالية كندا، في ما يتعلق بالطاقة، حيث تحظى بأكبر احتياطات العالم من اليورانيوم عالي الجودة، وثالث أكبر احتياطات نفطية مؤكدة عالمياً. وتحل البلاد في المرتبة الخامسة ضمن أكبر منتجي الغاز الطبيعي.
كما تمتاز كندا بمعروض وفير من مواد أخرى، بما في ذلك أكبر احتياطي من مادة البوتاس، التي تُستخدم في صناعة الأسمدة. علاوة على ذلك، تمتلك البلاد ثلث الغابات المُعتمدة عالمياً، وخُمس المياه العذبة على وجه الأرض. بالإضافة إلى ذلك، لدى كندا وفرة من عناصر الكوبالت، والغرافيت، والليثيوم، ومعادن أرضية نادرة أخرى، من التي تُستخدم في التقنيات المتجددة. وأضاف بابيك: «بكل تأكيد، تتمتع كندا بإمكانية أن تصبح قوة عظمى عالمية»، لكن البلاد تفتقر إلى القيادة البصيرة والإطار السياسي المطلوبين للاستفادة من ميزاتها.
ومع ذلك، فقد تغيّر نصاب الأمور في ظل تهديدات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بفرض تعريفات جمركية. ويوجد حالياً إجماع سياسي متنامٍ على إطلاق العنان أمام الإمكانات الاقتصادية لكندا، وتقليص اعتمادها على التصدير لجارتها الجنوبية. وسيحمل هذه المهمة، إما رئيس الوزراء، مارك كارني، أو زعيم المعارضة، بيير بواليفير، بعد الانتخابات التي ستُجرى في وقت لاحق من العام.
لطالما تخلّف نمو الناتج المحلي الإجمالي لكندا عن ركب نظرائه في مجموعة السبع، ليحل في المرتبة الـ 16 عالمياً من حيث مقياس تعادل القوة الشرائية. يمكن لبلد بمثل هذه الجغرافيا الفسيحة، أن يولّد ناتجاً أعلى بوضوح.
ومن أجل فعل ذلك، يحتاج الاقتصاد الكندي إلى أن يصبح أكثر كفاءة، وأن يحشد الاستثمارات، وأن يجتذب المزيد من العمالة الماهرة. لكن كيف يمكنه فعل ذلك؟.
تعيق التضاريس الجبلية للبلاد إمكاناتها الديناميكية. لكن كندا تضع أعباء بيروقراطية هائلة على حركة الأشخاص والسلع أيضاً. ويشمل ذلك فرض كندا لقيود على مبيعات سلع بعينها عبر الحدود الإقليمية، علاوة على تباين التراخيص والمعايير الفنية التي تعرقل التوسّع، والمنافسة، والتخصيص الكفء للموارد في ربوع البلاد.
وعلى سبيل القياس، تصدّر المقاطعات الكندية كميات أكبر من السلع للولايات المتحدة، مقارنة بما تصدّره إلى بعضها بعضاً. وتوصلت دراسة أجراها معهد «ماكدونالد - لورييه» في عام 2022، إلى إمكانية نمو الاقتصاد الكندي بما يتراوح بين 4.4 % و7.9 % على المدى الطويل، وبما يصل إلى 200 مليار دولار أمريكي سنوياً، إذا تخلصت البلاد من الحواجز التجارية، عن طريق سياسات اعتراف متبادل. وقد أسهمت إصلاحات مماثلة في أستراليا خلال تسعينيات القرن الماضي، في تعزيز الإنتاجية في البلاد.
لكن ثمة اتفاق آخذ في الازدياد بين المقاطعات وبعضها، مع مواجهتها للتهديدات التي تمثلها التعريفات الجمركية الأمريكية. وتوصل استطلاع أجرته «أنغوس ريد»، إلى أن 95 % من الكنديين يدعمون في الوقت الراهن التخلّي عن الحواجز التجارية الداخلية. ومن شأن تبسيط النظام الضريبي المُعقّد، وتسريع عمليات التخطيط، وتخفيف الروتين الذي يواجه الاستثمار الأجنبي المباشر، والتوصل إلى آليات للشراكة الاقتصادية، تستهدف السكان الأصليين، جنباً إلى جنب مع إصلاحات تجارية داخلية، أن يدعم الشركات في الاستفادة من الموارد الفسيحة للبلاد، في ما يتعلق بالطاقة والمعادن عبر سلسلة التوريد الصناعية.
كما يمكن لكندا أن تلعب دوراً بالغ الأهمية في تلبية الطلب العالمي على كل من الغاز الطبيعي، واليورانيوم المُستخدم في المفاعلات النووية، والمعادن الأرضية النادرة، خاصة في ضوء الطفرة التي يشهدها قطاعا الطاقة المتجددة والدفاع. وتُعد الموارد الطبيعية الموجودة في كندا، بالإضافة إلى إمكاناتها في ما يتعلق بالإنتاج ذي القيمة المُضافة العالية، وأنشطة التكرير، أصولاً قيّمة، مع نظر الدول في تنويع سلاسل توريدها بعيداً عن الصين، وروسيا، وحتى الولايات المتحدة.
ومن شأن تطوير الموارد الطبيعية المنتشرة في ربوع البلاد أن تدعم تجمّع الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة، بما في ذلك التصنيع المتقدم، والتمويل، والبحث والتطوير. ويسلّط هذا الضوء على أهمية تعزيز الاتصال لدعم منافذ التجارة إلى آسيا وأوروبا. وفي الوقت الراهن، يتوجه نحو ثلاثة أرباع الصادرات الكندية من السلع إلى الولايات المتحدة. وستكون أي إدارة أمريكية مستقبلية أكثر وداً تجاه البلاد مكسباً إضافياً.
ويرى فارون سريفاتسان مدير السياسة لدى «رويال بنك أوف كندا»، أن «كندا يجب أن تواصل تعزيز بنيتها التحتية في التجارة والطاقة من الساحل إلى الساحل، بما في ذلك الموانئ، والطرق، والسكك الحديدية، وخطوط أنابيب النقل». وتحل البلاد في المرتبة 103 من بين 113 دولة في أزمنة التسليم داخل الموانئ، بحسب بيانات البنك الدولي.
يأتي بعد ذلك دور الحديث عن السكان، حيث تُعد كندا، التي تضم 40 مليون نسمة فقط، واحدة من أقل الدول كثافة سكانية عالمياً، لكن لديها في الوقت نفسه واحدة من أسوأ أزمات الإسكان في العالم المتقدم. لذلك، فقد تضاعف متوسط أسعار المنازل ثلاث مرات على مدى العقدين المنصرمين، وتقيّد ديون الرهن العقاري إنفاق المستهلكين.
والمشكلة هنا مشكلة عرض وطلب. فقد قفزت معدلات الهجرة تحت إدارة رئيس الوزراء السابق، جاستن ترودو، ما أسهم في توسيع سوق العمل الضيقة في البلاد. ومع ذلك، فهذه الهجرة تفرض ضغوطاً على البنية التحتية العامة، التي لم تتطور بالوتيرة ذاتها. وسيكون فرض قيود أكثر صرامة على الهجرة حلاً مؤقتاً. لكن كندا تحتاج إلى مواصلة اجتذاب المهارات على المدى الطويل، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار شيخوخة السكان، وكذلك ضآلة القوى العاملة لديها. ولا يمكن للذكاء الاصطناعي وعلوم الروبوتات، وكلاهما يتطلب استثمارات، أن يساعدا كثيراً في هذا الصدد.
ولا يجب أن يكون كل هذا شديد الصعوبة، حيث يشي مؤشر الحياة الأفضل الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بأن كندا تتفوق من حيث الأداء على المتوسط في كل من التعليم، والصحة، والرضا عن الحياة. وتحل كالغاري وفانكوفر وتورونتو بين أفضل المدن التي يمكن العيش فيها. علاوة على ذلك، تُعد كندا أكثر الوجهات جذباً لخريجي الجامعات، بحسب مجلة «إيكونوميست»، التي تشير تقديراتها إلى إمكانية انتقال حوالي 17 مليون خريج إلى البلاد، لو أمكنهم ذلك.
وسيضمن بناء المزيد من المنازل، أن تظل كندا جذابة وأيسر من حيث التكلفة لكل من الموظفين المحليين والدوليين. ولا تستغل كندا مهارات المهاجرين بالكفاءة المطلوبة. ولفتت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى أن الاعتراف الموحّد على المستوى الوطني بالمؤهلات الأجنبية سيكون داعماً.
وما سبق كله، لا يمثّل قائمة شاملة بالسياسات التي يجدر بكندا اتباعها، لكن يجب أن تكون هذه السياسات من بين الأولويات طويلة المدى، التي يتعين على أي إدارة كندية تسعى إلى الاستفادة من الإمكانات الهائلة والكامنة في البلاد اتباعها.
لكن هل توجد لدى كندا القدرة المادية؟ يُشار إلى أن كندا لديها أقل صافي ديون بين دول مجموعة السبع، ولديها كذلك أقل معدلات عجز كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. ويمكن للاستثمارات المحفزة للنمو أن تُموّل جزئياً عن طريق الاقتراض.
وتوجد لدى كندا أيضاً الكثير من رؤوس الأموال والخبرات في صناديقها الرائدة عالمياً للمعاشات التقاعدية. وتشرف صناديق المعاشات التقاعدية الثمانية الأبرز، والتي تُعرف باسم «مابل 8»، على أصول بقيمة 1.6 تريليون دولار أمريكي. لذلك، يمكن لهذه الصناديق أن تدعم استثمارات رأسمالية مربحة في البلاد. ويمكن أيضاً توجيه إيرادات الموارد الطبيعية الموجودة في كندا إلى صندوق ثروة سيادي، مثلما هو الحال في النرويج.
إن الاقتصاد الكندي يقف في مفترق الطرق اليوم. وتثير عدوانية شريكتها التجارية الأساسية، إجماعاً حول ضرورة تعزيز الاقتصاد الوطني. كذلك، يحتاج العالم إلى الوفرة التي تتمتع بها كندا، وتحظى البلاد اليوم بفرصة فريدة لبلوغ إمكاناتها، فقط إن كانت ترغب بذلك.