Al Bayan
today-time28 شوال 1446 هـ ، 26 أبريل 2025 م
prayer-time

فرصة تاريخية للدول لاستقطاب الكفاءات الفارّة من السياسات الأمريكية

تتدفق موجةٌ عارمة من الشكوك تجاه العلوم، بأفرعها كافة أو بعضها على الأقل، بين أوساط التيار الشعبوي اليميني الأمريكي. وقد بلغت هذه النزعة أوجها خلال الولاية الرئاسية الثانية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. وغدا نظام البحث العلمي والصحي في الولايات المتحدة يتداعى تحت وطأة خطط تقليص التمويل المكثفة، وتسريح الموظفين في المؤسسات الفيدرالية، فضلاً عن فرض رقابة مشددة على مجالات البحث العلمي المسموح بها.

ولا شك في أن هذه السياسات ستلقي بظلالها الثقيلة على منظومة الصحة العامة والاقتصاد الأمريكي، فقد شكلت الروح العلمية الأمريكية طويلاً العمود الفقري لريادتها الاقتصادية والتجارية، الأمر الذي يحتم على الدول الأخرى - لا سيما الأوروبية منها - التحرك لضمان استمرارية العمل البحثي الحيوي للعلماء الأمريكيين. وفي الوقت نفسه، تلوح في الأفق فرص سانحة أمام هذه الدول لتحويل خسارة أمريكا الذاتية إلى مكاسب استراتيجية لمصلحتها.

وشهد الأسبوع المنصرم وحده تسريح آلاف الموظفين من وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية، ضمن حملة تقليص شاملة يقودها روبرت كينيدي جونيور، أحد كبار المشككين في اللقاحات، والذي يتولى حالياً مقاليد الوزارة، (وكان كبير الهيئة التنظيمية للقاحات الأمريكية قد استقال مسبقاً احتجاجاً على ما وصفه بـ«التضليل والأكاذيب» التي يروج لها كينيدي)، فيما جرى وضع قيادات هيئة الغذاء والدواء ومراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها والمعاهد الوطنية للصحة في إجازات إدارية مع عرض إعادة تعيينهم في مناصب أخرى.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ وجّه أكثر من 1,900 عالم أمريكي بارز رسالة إلى إدارة ترامب منددين بما أسموه «الهجمة الشاملة على العلم الأمريكي»، فيما لم تُسهم عملية الحساب المتعجلة للتعريفات «المتبادلة» المفروضة على الشركاء التجاريين الأسبوع الماضي سوى في ترسيخ النظرة السائدة بافتقار البيت الأبيض لاحترام التفكير العقلاني.

وألقت التخفيضات التي طالت المنح التمويلية من المعاهد الوطنية للصحة - التي تعد أكبر ممول للأبحاث الطبية الحيوية في العالم وبفارق شاسع - بظلال الشك على مستقبل الباحثين، كما تتواصل عمليات التقليص هناك وفي جهات أخرى، ويقف وراءها ما يُعرف بـ«وزارة الكفاءة الحكومية» التي يرأسها إيلون ماسك، وسط شكوك بأنه يسعى إلى تحويل بعض مجالات البحث العلمي الممولة من القطاع العام نحو القطاع الخاص، بما في ذلك لمصلحة شركاته الخاصة.

وباتت الأبحاث المتعلقة بالاحتباس الحراري ودراسات تأثر المجموعات العرقية المختلفة بالأمراض في مهب الريح، بفعل الحملة التي يشنها البيت الأبيض ضد علوم المناخ وسياسات التنوع والشمول، وهو ما يلقي بظلال قاتمة على المسار العالمي لمواجهة تحديات تغير المناخ والوقاية من الأمراض والأوبئة.

وتنطوي هذه الأزمة على فرصة ذهبية للدول الساعية لاستقطاب العقول والكفاءات العلمية من خلال توفير ملاذات آمنة للباحثين الأمريكيين، لا سيما أوروبا التي تلوح أمامها إمكانية تاريخية لعكس مسار نزيف الأدمغة المستمر منذ عقود عبر الأطلسي، وضخ دماء جديدة في منظومتها البحثية ومشاريعها الريادية.

ورغم العقبات المتمثلة في شح الموارد المالية والحساسيات السياسية المرتبطة بملف الهجرة، فقد انطلقت بالفعل مبادرات ملموسة من مؤسسات أكاديمية أوروبية، إذ أطلقت جامعة إيكس-مرسيليا الفرنسية برنامج «الملاذ الآمن للعلوم»، بينما سارعت كبريات جامعات بروكسل لتقديم منح خاصة للعلماء الراغبين في الهجرة.

وتجاوزت المبادرات المستوى المؤسسي للوصول إلى أروقة صناع القرار، حيث قاد وزير البحث العلمي الفرنسي فيليب بابتيست جهداً جماعياً توج برسالة وقعها 12 وزيراً أوروبياً، تطالب بتبني استراتيجية موحدة لاستقطاب «المواهب الأجنبية»، مع مقترحات جادة لتوسيع مظلة مبادرة «هورايزون أوروبا» البحثية العملاقة بميزانية قدرها 95 مليار يورو – لتشمل في مرحلتها القادمة بعد عام 2028 آليات خاصة لاحتضان العلماء المهاجرين من الولايات المتحدة.

ولدى المملكة المتحدة، الشريكة في برنامج «هورايزون»، فرصة ذهبية للاستفادة من هذا الوضع، خصوصاً مع وجود عوامل مساعدة مثل اللغة المشتركة وسمعة جامعاتها المرموقة عالمياً. غير أن ارتفاع تكاليف التأشيرات والقيود المفروضة على الهجرة تضع بريطانيا في موقف تنافسي ضعيف، وهو ما يتطلب تدخلاً عاجلاً من رئيس الوزراء كير ستارمر لمعالجة هذه العقبات.

وتبقى الرؤية المستقبلية ضبابية حول ما إذا كانت ولاية ترامب الثانية مجرد انتكاسة مؤقتة يمكن تجاوزها لإعادة إحياء العلوم الأمريكية، أم أنها ستشكل منعطفاً تاريخياً أكثر استدامة، ما يجعل الحكمة تقتضي الاستعداد لكافة السيناريوهات المحتملة، والسعي الحثيث للحفاظ على الإنجاز العلمي الأمريكي بشتى السبل، سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها.