يحتدم الصراع الإقليمي على الأراضي السورية مع تصاعد الغارات الجوية الإسرائيلية التي تستهدف بشكل متكرر قواعد عسكرية، فضلاً عن مواقع تتداول الأوساط السياسية والإعلامية أن تركيا تسعى إلى تحويلها إلى قواعد عسكرية دائمة بالتفاهم مع الحكومة السورية.
وفي ظل هذا التصعيد، تتزايد المخاوف على الصعيد الوطني السوري، وهي مخاوف لا تقتصر على جهة دون أخرى، بل تتقاطع عندها معظم القوى المحلية، على اختلاف توجهاتها، من أن تتحول سوريا إلى ساحة مفتوحة للصراع الإقليمي، تعج بالتجاذبات والتدخلات الخارجية التي تتجاوز حدود المصالح السورية المباشرة.
ومع أن الواقع الميداني لم يشهد بعد انخراطاً عسكرياً مباشراً، إلا أن مرحلة التوتر الحالية توصف بكونها في طور التمهيد والتسخين، حيث تقتصر التحركات حتى الآن على تبادل «الرسائل» عبر الضربات الجوية أو التسريبات الإعلامية الموجهة.
ويبدو من المرجح أن يفرض هذا التنافس الإقليمي المتصاعد مزيداً من الأعباء على كاهل الحكومة السورية، التي تسعى في هذه المرحلة إلى التخلص من إرث الخطاب التصعيدي الذي طبع سياسات النظام السابق، وتحاول اعتماد نهج دبلوماسي هادئ يجنبها الانخراط المباشر في أي محاور أو تحالفات إقليمية قد تعيد إنتاج علاقات التبعية أو العزلة التي عانت منها البلاد لعقود.
ومع ذلك، فإن المهمة لا تبدو سهلة على الإطلاق، فالحكومة السورية تجد نفسها محكومة بإرث من العلاقات الاجتماعية والسياسية مع تركيا، وفي الوقت ذاته تواجه تمدداً إسرائيل برياً في محيط دمشق غرباً وجنوباً، ما يجعل السير على الحبل الدقيق للتنافس الإقليمي مهمة محفوفة بالمخاطر.
إن موازنة هذه العلاقات في ظل تسارع الأحداث وتعدد أطراف التأثير الخارجي تتطلب مهارة سياسية استثنائية، خاصة وأن بعض الأطراف تسعى إلى فرض وقائع ميدانية جديدة تضعف من قدرة دمشق على التحكم بمسار الأمور.
في هذا السياق، تأتي الضربات الإسرائيلية الأخيرة، لتشكل تحولاً في المشهد، خصوصاً بعد أن خرجت دوائر رسمية في تل أبيب لتعلن بوضوح أن هذه الغارات ليست سوى رسالة مباشرة موجهة إلى أنقرة، فمنذ اللحظات الأولى لسقوط نظام الأسد، رسمت إسرائيل لنفسها خطوطاً حمراء في سوريا، أهمها منع تواجد السلاح الثقيل أو الجماعات المسلحة بالقرب من حدودها.
وفي إطار هذه الاستراتيجية، لم تكتفِ إسرائيل بالمراقبة، بل بادرت إلى التوغل الميداني في مناطق واسعة من الجنوب السوري، لاسيما في القنيطرة وريف دمشق ودرعا، بالتوازي مع شن سلسلة من الغارات الجوية استهدفت بداية قواعد عسكرية وجوية وبحرية ومخازن أسلحة، ثم تطورت لتأخذ طابعاً استباقياً يشمل كل موقع ترى فيه تل أبيب تهديداً محتملاً في المستقبل لما تسميه «حرية العمل» في الأجواء السورية.
تنافس
إن الضربات الإسرائيلية الأخيرة والتي استهدفت مواقع يقال إن تركيا تسعى إلى تحويلها إلى قواعد عسكرية دائمة بالتفاهم مع الحكومة السورية، إشارة واضحة إلى اتساع رقعة التنافس على النفوذ داخل سوريا. وقد انعكس ذلك على خريطة الضربات التي نفذتها إسرائيل خلال الأشهر الأربعة الماضية، إذ توسعت من الجنوب السوري، الذي يشمل مناطق درعا والسويداء.
وصولاً إلى مشارف مدينة حماة، حيث جرى استهداف المطار العسكري القريب منها. ويُعد هذا التطور أول مؤشر على وصول الغارات إلى مناطق تقع ضمن نطاق النفوذ التركي المعروف في شمال سوريا، ما يفتح الباب أمام احتمالات تصعيد أكبر في قادم الأيام. اللافت في هذا التحول، أن خريطة النوايا الإسرائيلية الجديدة لا تتطابق مع ما سبق أن سربته تل أبيب في وقت سابق.
حين أعلنت رغبتها في تأسيس منطقة نفوذ جوي تمتد من محافظة حمص على خط عرضي من الغرب إلى الشرق، وصولاً إلى أقصى الجنوب السوري، أما الآن، فإن التطورات الميدانية تشير إلى طموح أكبر يتمثل في توسيع هذا النفوذ ليشمل مناطق أكثر شمالاً، ما يثير بطبيعة الحال مخاوف من حدوث صدام إقليمي مباشر.
إن ما يجري اليوم في سوريا مؤشر على قرب دخول البلاد في مرحلة جديدة من التنافس الإقليمي، الذي وإن كان مضبوطاً إلى الآن تحت الرقابة الأمريكية، إلا أن ملامحه بدأت تتضح، في انتظار «لحظة مفصلية» قد تحدد مستقبل التوازنات في سوريا لعقود مقبلة.