المشهد الماثل يتَّسم بقدر كبير من القلق المقرون بالتشظِّي والغلو واختلاط الأوراق، ومن المفيد هنا ملاحظة التحولات التاريخية الكبرى من مستويين مختلفين في منطق التحول، فأحد هذين المستويين يتم بطريقة تلقائية نابعة من مقدمات تاريخية استكملت أسباب تلاشيها وانهيارها المحتوم، وتنطبق مثل هذه الحالة على الإمبراطورية الرومانية التاريخية التي تهاوت بنتيجة استشراء الفساد فيها، وتضخمها المقرون بانفلات معايير الحاكمية والإدارة.

لقد شكلت هذه المقدمات مساراً حقيقياً لانهيار مؤكد، وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن يأتي الجواب الكوني الذي اختص الله به العرب المسلمين لملء ذلك الفراغ الكبير، وتقديم نموذج مغاير، غير أن هذا النموذج العربي الإسلامي وقع في ذات المصيدة القاتلة نتيجة ذات الأسباب المدمرة للكيانات الكبيرة، ولا داعي هنا لاستدعاء الحالتين الإمبراطوريتين الأموية والعباسية، وتلك المآلات التي كانت ذروتها سقوط الأندلس.

النمط الأول من الانهيار يتَّسم بقدر كبير من المنطق التاريخي الذي يسمح بانتقالات أقل خطورة ودرامية، خصوصاً إذا عرفنا أن الكيانات المنهارة جاءت من تضاعيف مشروع ورؤية، واحتكمت إلى مرجعيات واضحة، غير أن المُلك والسلطان تغلَّبا على المشروع وحكمته، والرؤية ومدلولاتها الحميدة، وقد أسلفنا الإشارة إلى نموذجي روما، والدولة العباسية العالمية، بوصفهما شاهدين على معنى الانهيار بالتتابع البطيء. الوجه الآخر المرصود في التحولات التاريخية العاصفة يتمثَّل في الفتوة العاتية للقوى العصبية القادمة من فراغ اللا معنى، وهنا مثالان تاريخيان في غاية الأهمية.

يتمثل الأول في الهجمة المغولية التي عصفت بحضارات وإمبراطوريات الشرق الكبير، لكنها سرعان ما تماهت مع السياق العام للموروث الحضاري في العالمين الإسلامي والصيني، لأنها كانت خاوية الوفاض من أي مشروع، وقائمة على التعصب القومي المغولي، وقد مثل الإمبراطور تيمورلنك قمة التماهي الإيجابي مع الحضارة الإسلامية، رغماً عن كونه سليل مغتصبين أفجاج.

تمثَّلت عاصفة التراجيديا التحولية العالمية التالية في المشروع النازي الهتلري، وقرينه الشوفيني الإيطالي، وقد انهار هذا المشروع بنهاية الحرب العالمية الثانية، التي كانت إيذاناً بتوازن عالمي وانتعاش اقتصادي، وميزان ناظم لمعنى السيادة والقوة والحماية. وقد انقلبت تلك الصورة رأساً على عقب، بمجرد انسحاب طرف أصيل من المعادلة الثنائية القطبية، حيث شكل الانهيار التلقائي للاتحاد السوفيتي منطلقاً لصالح الجمهوريين المحافظين في الولايات المتحدة، ممن اعتبروا تلك الحالة سانحة فريدة وفرصة نادرة للذهاب بعيداً في انتهاك قواعد اللعبة السياسية الدولية خلال الحرب الباردة.

وجد الجمهوريون الجدد كامل المبررات الافتراضية لاعتقادهم بأن النموذج الأميركي هو نموذج المستقبل، وأن الانهيار السوفيتي دليل نهائي على انتصار الرأسمالية، تلك العقيدة التي بدت شاخصة حد الفجور، وهكذا بدأوا يخططون لعالم المركز الواحد، مُعتبرين ما سبق عالماً قديماً مضى وانقضى.

هذا التعميم السياسي اليميني الحاد سرعان ما وجد له نظيراً أيديولوجياً في الدين السياسي الأنجليكاني، الرائي لفكرة الصدام الكوني بوصفه حتمية إلهية لا مفر منها، ومن هنا نشأت حالة القبول الضمني بمرئيات الدين السياسي الموازي لفكرة النهاية الحتمية عند المسلمين، القائل بالنهايات الهرمجدونية على ذات النمط الكنسي الأنجليكاني.

ويتعجب البعض من قبول اليمين الجمهوري بتيارات الدين السياسي الأكثر غلواً في الساحة العربية، متناسين أن ما يذهب إليه هؤلاء من تحديد لمصائر الحتمية الجبرية لنهاية العالم الماثل، لا يختلف من حيث الجوهر مع ما قال به الريغانيون الجدد، جمهوريو ولايتي بوش الأب والابن. من المخيف أن هذه المسألة لم تعد محكومة ببراغماتيات السياسة ومصالحها المُتغيرة، بل بنزعة أيديولويجية طاغية هنا وهناك، ما ينذر بأوخم العواقب وأكثرها رعباً.

ولنا هنا أن نتأمل في الثنائية الطارئة لداعش المريبة، وأنصار الدولة الإسلامية الغامضين حتى مخ العظم، لنعرف تماماً أن اللقاء الموضوعي بين هذين المستويين، لا يختلف عن لقائهما مع الغلاة اليمينيين المدججين بذات الخطاب الديني السياسي.

هنا نستطيع القول إن مركزاً كونياً جديداً لم يظهر، وتوازناً عالمياً ما زال يغيب، ولهذا نرى ما نراه في ساحات تصفية الحسابات السياسية، فالولايات المتحدة وروسيا تتواجدان حقاً وفعلاً من خلال آلة الموت والدمار، وتتوسع معاركهما بالنيابة كلما ازداد المنخرطون في المعادلة.

وليس سراً اليوم أن روسيا والصين تتموضعان في ذات المربع التحالفي العالمي، حتى وإن تباينت حساباتهما وقراءاتهما للمتغيرات. وفي المقابل تتموضع الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية في ذات المربع التحالفي، رغم تباين الاجتهادات بينهم حول تحولات العالم المعاصر، وكأن حرباً باردة بقيت في أساس النار والبارود.

مما سبق نصل إلى أن التحولات العاصفة في التاريخ البشري والانهيارت الكبرى، تكون رحيمة عندما تتَّصل بمقدمات زمنية مديدة، وتكون كارثية عندما تأتي بصورة مفاجئة، ومن هنا سأسمح لنفسي باستنتاج دراماتيكي مفاده أن هذه الحالة القائمة ستمضي قدماً إلى منتهاها، وأنه ((ليس لها من دون الله كاشفة)) صدق الله العظيم.