هل الشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع أم المصدر الوحيد للتشريع؟ على هذا السؤال تدور رحى الأحزاب والتيارات الفكرية المتطرفة، ليصنعوا من هذه العبارة تهماً معلبة ضد بعضهم وضد حكامهم، ومنهم من يصل به الأمر إلى تحريم دراسة القانون لأنه حكم بما لم ينزل الله. هل يرى هؤلاء أن الشريعة الإسلامية ضحلة وضيقة لدرجة أنه يمكن أن نلخصها في عدد من المواد ونحكم عليها بأنها أحاطت بتفاصيلها وتحوطت لتغير أحوال المجتمع عليها؟

مجلة الأحكام العدلية التي أصدرتها الدولة العثمانية على المذهب الحنفي، اعتبرت حينها فتحاً من فتوح الشريعة الإسلامية، لأنها صاغت أحكام المذهب الحنفي، وكانت هذه هي أول صياغة قانونية تشريعية في التاريخ الإسلامي حسب علمي..

فجاءت في ألف وثمانمئة مادة وزادت عن ذلك قليلا، شملت أحكام البيوع والعقود والشركات والدعاوى والبينات والقضاء، أي ما يعادل بلغة هذا العصر، قانون المعاملات المدنية مع قانون المعاملات التجارية وقانون الشركات وقانون الإثبات وقانون المرافعات المدنية، فاختصر كل كتب الفقه الحنفي في هذه المواد وأصدروها للناس.

ولما تطورت حاجات المجتمع بدأت هذه المجلة تضيق عن تلبيتها، لأنها اختزلت الشريعة الإسلامية في مواد جامدة صماء لا تتفاعل مع حاجات المجتمع وحوادثه، فوقف العمل بها. وأعتقد أن الناس حينها ظنوا أن الشريعة الإسلامية قد رفعت من الأرض لأن المجلة ألغيت.

ألغيت مجلة الأحكام العدلية، على الرغم من الصياغة المتقنة التي جمعت بين ثراء المعنى الشرعي وقوة اللفظ العربي ورصانة المصطلح القانوني، ولم يكررها الزمن إلى يومنا هذا. وعلى الرغم من جلالة واضعيها وعلو قدرهم في العلم، فإن فكرة حصر الشريعة وتلخيصها بالمواد القانونية فكرة غير صحيحة، كمن اشترى أرضاً واسعة ليبني منزله عليها..

فبنى داراً عظيمة أحاطت بكل الأرض لكنها صالة واحدة غير مقسمة إلى مرافق، وغرف وطوابق، ونحن اليوم أكثر تنظيماً وإحاطة فلدينا من التشريعات ما يلبي حاجاتنا في جميع المجالات فأصبح ذلك القصر مقسماً حسب الأغراض متنوعاً في المرافق، تعدل غرفه وصالات بتغير حاجات سكانه.

بل وصلنا في التفصيل والتعمق في تنظيم حاجات الناس، إلى درجة تنظيم الموضوع الواحد في عدة تشريعات مختلفة، كل واحد منها يتناول زاوية محددة من زوايا الموضوع، مثل موضوع العقود الذي تفرعت منه تشريعات العقود المدنية وتشريعات العقود التجارية وأخرى للعقود الحكومية والعقود الدولية..

ولكل مجال قواعده وأركانه المستقلة وعلماؤه المختصون الذين يضعون التشريعات في مواضع حاجات الناس، ويستعينون بعلماء الإسلام ليتخيروا من الفقه الإسلامي ما يناسب المجتمع ونوازل العصر، وما زالت الشريعة واسعة لكل القوانين.

ولو بحثنا في مصدرية الشريعة الإسلامية نفسها، لوجدناها متشعبة ومختلفة في فروع المعاملات والبيوع والمواضيع التي تجري عليها مصالح الناس، فما تجده عن السادة المالكية جائزاً تجده عند السادة الشافعية غير جائز، وقد تجد المسألة الواحدة اتفق عليها مذهبان وخالفهما فيها مذهب ثالث وجاء المذهب الرابع برأي مختلف تماماً عن المذاهب الثلاثة..

بل تجد أن المسألة الواحدة مختلف فيها عند فقهاء المذهب الواحد، على خلاف طبيعة النص القانوني الذي لا يحتمل التشعب والاختلاف في الرأي، بل يضع حكماً عاماً مجرداً، يطبقه المخاطب به بغض النظر عن مذهبه أو دينه ومدى قناعته به.

لذلك فعلاقة الشريعة بالقانون علاقة جزء بكل وعلاقة غاية بوسيلة، والشريعة بحر طام عظيم، والقانون مركب صغير يسير فيه إلى مقاصد متعددة، لو كانت حلالا جرى المركب على مجاري تيار الماء والهواء حتى يصل بسلام، ولو خالفها سبح عكس التيار وأجهد طاقم المركب وركابه، إلى أن تأتي اللحظة التي يقتنع فيها الناس بضعفهم وقلة حيلتهم فيسيروا كما سار الناس من قبلهم.

أما المصادر الأخرى للقانون، كمبادئ العدالة والعرف، فهذه هي مصادر الشريعة الإسلامية نفسها، فمبادئ العدالة من آكد المبادئ التي جاء بها القرآن وبنيت عليها جميع أحكام الشريعة الإسلامية، والعرف الصحيح الذي لا يخالف الشريعة يبنى عليه كثير من أحكام الشريعة، وينسب لابن عابدين الحنفي أنه قال: والعرف في الشرع له اعتبارُ.. لذا عليه الحكم قد يدارُ.

فإذا كان القانون أداة من أدوات تطبيق الشريعة الإسلامية، ومصادره هي ذاتها مصادر الشريعة الإسلامية، والشريعة الإسلامية هي مصدر من مصادره الرئيسية، فأين التعارض بينهما؟ وعلى ماذا ينادي الجهلاء بالخروج على الحكام؟ وبأي حق يحرم هذا العلم؟ يقول صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق».