في هذا العصر، الذي نعيش فيه تطرّفاً في الأفكار، وعودة إلى «البدائية»، يتّجه أناس لتبعية «جماعات نارية» تشعل اللهب هنا وهناك، تحرق الأخضر واليابس معاً، فتذهب ضحية لقيادات هذه الجماعات وأفكارها، نفوسٌ بريئة في أماكن مختلفة من العالم!.
المسؤولية هنا هي على التابع والمتبوع معاً، وعلى المتقاعسين عن دورهم في مواجهة التطرف، وعلى المخالفين لطبيعة الحكمة الإلهية في هدف الاختلاف بين البشر، وعلى المستغّلين لأمانة الاستخلاف في الأرض، وفي الحفاظ على توازن الطبيعة واعتدالها.
عالم اليوم لا يعيش الخوف من «الآخر» كإنسان أو مجتمع مختلف في ثقافته أو لونه أو معتقده فقط، بل يعيش أيضاً الخوف من الطبيعة وكوارثها، ومن فساد استهلاك بشرها لخيراتها وثرواتها. عالم اليوم «تعولمت» فيه مظاهر التطرّف ومشاعر الخوف والكراهية.
وربّما يساهم بتحمّل مسؤولية هذه «العولمة السلبية» التطوّر العلمي في وسائل الإعلام وفي التقنية المعلوماتية ووسائل «التواصل» الاجتماعي، إذ يبدو أنه كلما اقترب العالم من بعضه البعض إعلامياً وخبرياً وتقنياً، تباعد ثقافياً واجتماعياً!.
عالم اليوم يخشى من الغد بدلاً من أن يكون كل يوم جديد مبعثاً لأمل جديد في حياة أفضل. شعوب وجماعات تعيش الخوف من إرهاب ما قد يحدث في مراكزها الدينية أو التجارية أو التربوية، وأخرى تعايش الإرهاب حصيلة احتلال أو عبث صراعات عُنفية محلية.
نعيش هذه الحالة السلبية تحديداً منذ أحداث 11 سبتمبر/2001، حين خرجت أصوات عنصرية في أوروبا وأميركا تُدين الإسلام والمسلمين والعرب بالجملة وليس لمحاسبة أعمال فردية هنا وهناك.
إن التطرّف العنصري في المجتمعات الغربية ازداد فاعلية وبروزاً خلال السنوات القليلة الماضية، وهذا ما شجّع أتباع الحركات والجماعات العنصرية على ممارسة أعمال عنف وإرهاب شملت مدناً أوروبية وأميركية ووصلت مؤخراً إلى نيوزيلندا في جريمة بشعة أدّت إلى مقتل وجرح العشرات من المصلين المسلمين.
صحيحٌ أن المواقف والتصريحات الصادرة عن العديد من المسؤولين في الغرب ترفض الخلط بين الإسلام والعرب من جهة، وبين «الإرهاب» من جهة أخرى، لكن بعض وسائل الإعلام الغربية وكثير من السياسيين الغربيين يبثّون في كثيرٍ من الأحيان ما هو مصدر شك وريبة وخوف من كل عربي وكل مسلم في أميركا وأوروبا وصولاً إلى أستراليا.
وقد ساهمت هذه الثقافة المعادية للعرب والمسلمين في تقوية التيار اليميني المحافظ في أميركا وعدّة دول أوروبية.
طبعاً تشويه الصورة العربية والإسلامية في الغرب، رافقه ويرافقه، عاهات وشوائب كثيرة قائمة في الجسمين العربي والإسلامي، كما أن المناخ السياسي والثقافي والإعلامي في الولايات المتحدة والغرب عموماً هو جاهز لكل عاصفة هوجاء ضد كل ما هو عربي وإسلامي، خاصةً بعدما حدث ويحدث من ممارسات إرهابية هنا أو هناك، وتتبنّاها «داعش»، فتعطي زخماً كبيراً ووقوداً لنار الحملة على العرب والمسلمين أينما كانوا.
ومع مجيء إدارة ترامب إلى «البيت الأبيض» اتجهت أميركا ومعها بعض الدول الغربية، إلى سياسة التخلي عن «العولمة» بجانبيها الاقتصادي والعسكري، واستبدالها بسياسات قائمة على «قوميات» ومصالح، وليس على تكتّلات دولية تُقيّد حركة الولايات المتحدة أو تُلزمها بتحالفات لا جدوى منها.
المسألة الأخرى، التي تزامنت مع موجة التراجع في الغرب عن «العولمة» لصالح «القوميات»، هي ظهور العامل الديني المساعد على تبرير العنصرية ضدّ الشعوب والثقافات المغايرة، كما لمسنا ذلك في التيارات الدينية المحافظة التي تدعم المرشحين الأوروبيين اليمينيين. وخطورة هذا العامل في الحياة السياسية بالدول الغربية هو أنه يجنح بحكّامها نحو التطرّف والتناقض مع دساتيرها ومجتمعاتها العلمانية، ويجعل حربهم مع الجماعات الإرهابية في العالم وكأنها حروب مع أديان وقوميات أخرى!.
وحينما يكون المتَّهم جماعات إرهابية بأسماء عربية وإسلامية، فإن الغضب الغربي العام يتمحور حول العرب والمسلمين أينما وُجدوا، فكيف إذا ما أضيف إلى ذلك ما زرعته منذ عقد التسعينات في عقول الغربيين، كتابات ووسائل إعلامية مسيَّرة من قبل جماعات صهيونية أو عنصرية حاقدة من زعم حول «الخطر الإسلامي» القادم إلى الغرب!؟
وكيف يكون حجم هذا الغضب إذا ما اقترن بممارسات سلبية خاطئة، قام بها عدد من العرب والمسلمين في داخل المجتمعات الغربية التي تعاني من تضخّم عدد المهاجرين إليها، وما يحمله هؤلاء المهاجرون الجدد من طقوس وعادات وتقاليد ومظاهر لا تندمج سريعاً مع نمط حياة المجتمعات الغربية!؟
إن مشكلة «العالم الإسلامي» ليست مع المسيحيين في الغرب، لأن «الغرب المسيحي» نفسه عانى من صراعات دموية حصيلة الصراع على المصالح بين حكّام دول «العالم الغربي» وأيضاً كنتيجة للعنصرية العرقية والإثنية المتجذرة في أوروبا وفي الولايات المتحدة، وقد شهدت القارة الأوروبية في القرن العشرين حروباً لم يشهد العالم لها مثيلاً من قبل، جرت بين دول أوروبية مسيحية، يجمع بينها الموقع الجغرافي الواحد كما يجمعها الدين الواحد والحضارة الواحدة.
إن الذين يسوّقون الآن في الغرب من جديد لفكرة «الصراع بين الإسلام والغرب» يريدون فعلاً بهذه الدعوة جعل الغرب كله بحالة جبهة واحدة ضدّ الإسلام كموقع جغرافي، وقلب هذا الموقع الجغرافي هو الوطن العربي.
لكن هناك في داخل الغرب قوى تريد التقارب مع العرب والمسلمين، كما هناك في داخل الغرب قوى تريد العداء معهم. هناك في داخل الغرب قوى تتصارع مع بعضها البعض، وهناك في داخل العالم الإسلامي حروب داخلية على أكثر من مستوى. إذ ليس هناك جبهتان: غربية وإسلامية، بل هناك كتل متنوعة وقوى متصارعة في كل من الموقعين.
هي مسؤولية من هم في موقع القيادة على المستويات كلها أن تتم محاصرة وعزل التيارات العنصرية في المجتمعات الغربية كما هي أيضاً المسؤولية تجاه جماعات العنف في المجتمعات العربية والإسلامية. هي مسؤولية القيادات الحاكمة والقيادات الدينية وقادة مؤسسات المجتمعات المدنية والإعلامية، فالكل مسؤول عما وصل إليه العالم اليوم من انحدار في القيم ومن ممارسات وحشية في قتل الأبرياء.
*مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن.
Ⅶ صبحي غندور *