تحدث المفكر المصري جمال حمدان منذ أكثر من خمسة عقود عن عبقرية المكان، وكيف يمكن أن يؤثر الموقع الجغرافي على شخصية الدولة، وقوتها وثقافتها، وحتى على طبيعة علاقتها وامتدادها الدولي.

واليوم، تعكس معظم الأحداث السياسية هذا المفهوم بشكلٍ كبيرٍ، وهو ما كان واضحاً منذ بدء التاريخ، منذ الحضارة اليونانية إلى الإمبراطورية الرومانية وحتى نظامنا العالمي المعاصر الحديث. الوعي لربط الأحداث التاريخية بالأماكن التي أثرت تأثيراً كبيراً في رسم ملامح الهوية والتقاليد لهذه الدول والأحداث، والتي باتت تقود المشهد الاجتماعي والسياسي إلى يومنا هذا.

هنالك ثلاثة عناصر رئيسية تحدد قوة المكان: أولاً، يجب أن يكون ثابتاً وبالإمكان تحديده على الخريطة. ثانياً، مكان يلتقي فيه الناس بشكل متكرر، وأخيراً، هو التميّز في اختلافه عن المواقع الأخرى، وذلك مع الأهمية في الخلفية التاريخية أو الارتباط الحسّي لهذا المكان. فيما يلي سأعرض مثالين تاريخيين، كان فيهما المكان عنصراً مهماً في تشكيل السياسة وصناعة التاريخ:

المثال الأول، العنوان الأكثر شهرة في إنجلترا والعالم وهو الباب الأسود الذي وقف أمامه معظم ملوك وحكام وسياسيي العالم، الباب المصمم برقم 10 ورأس أسد نحاسي مهيب، يقع في وستمنستر، يعتبر منزلاً ومكتباً تاريخياً للسبعة وسبعين رئيساً للوزراء في بريطانيا لما يقارب من ثلاثمائة سنة.

تم تقديم المنزل رقم 10 الأيقوني في شارع داونينغ من قبل الملك جورج الثاني إلى اللورد روبرت والبول رئيس الوزراء الأول حينذاك، والذي طلب بدوره إتاحة العقار كمقر إقامة رسمي للحكومة عوضاً عن هدية شخصية، وبالتالي بدء التقليد الذي استمر حتى يومنا هذا. أفضل وصف عن المنزل رقم 10 في شارع داونينغ هو لمارغريت تاتشر في عام 1985 حين قالت إنه «أحد أثمن الجواهر في التراث الوطني».

أصبح الباب التاريخي تمثيلاً وتجسيداً لتاريخ الحكومة البريطانية وقيمها المتأصّلة فيه، حي تم خوض حربين عالميتين من خلف جدرانه؛ كما شهدت استقالة تيريزا ماي الشهيرة، وحديثاً الوصول إلى اتفاقية التجارة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

أما المثال الثاني، هو في قرية صغيرة بين حدود أبوظبي ودبي تسمى بـ«سيح السديرة»، حيث تم نصب خيمتين متواضعتين، وذلك لعقد اجتماع تاريخي بحضور ستة رجال فقط، ترأس الاجتماع المغفور لهما بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، حاكم أبوظبي، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم دبي، بحيث تمت المصافحة التاريخية في 18 فبراير 1968، والاتفاق على تشكيل دولة الإمارات العربية المتحدة، ودعوا بقية الإمارات للانضمام إليهما. وبعد ثلاث سنوات، تم الاحتفال باتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة وبرفع العلم، ودخل الدستور حيز التنفيذ.

كان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاضراً في ذلك اليوم. ووفقاً للتقاليد العربية كونه أصغر الحاضرين سناً في ذلك الاجتماع، يتذكر أنه قدم القهوة للحاكمين.

وفي تغريدة نشرها سموه احتفالاً بالذكرى الخمسين لذلك الاجتماع الشهير، والمعروف أيضاً باسم «اجتماع السميح»: «من هناك بدأنا، من هناك اتفقنا، من هناك مشينا في مسيرتنا». تكمن أهمية ذلك اليوم في وضع ملامح التاريخ السياسي المعاصر للخليج العربي، وتزامن مع قرار المملكة المتحدة بالانسحاب منها بعد 100 عام من نفوذها المهيمن في المنطقة.

ووصفت الدكتورة فاطمة الصايغ، أستاذ مشارك بقسم التاريخ والآثار في جامعة الإمارات العربية المتحدة، لقاء السميح بالقول: «كان بداية عصر ذهبي في تاريخ المنطقة. مهدت الطريق لتأسيس دولة فريدة من نوعها أصبحت نموذجاً في مختلف مجالات التنمية».

الجذور وقيم الانتماء تكمن في قلب الأماكن والأحداث التاريخية التي شكلت واقعنا السياسي حتى يومنا هذا. وبالرغم من ذلك، ومع وجود عالم متشابك ومترابط، حيث يمكن للناس السفر والتواصل بسرعة كبيرة متمثلة بالإنترنت والاجتماعات الافتراضية، في المستقبل هل سيستمر المكان الجغرافي عنصراً مهماً في خلق القوى السياسية والتاريخية، أم سيتحوّل إلى الشكل المجرد أو الافتراضي؟