لقد دعم الشعب الأمريكي بمعظمه الحرب في أفغانستان في عام 2001، لأنّها كانت أشبه بحال انتقام لما حدث في يوم 11 سبتمبر من ذلك العام، بسبب وجود أسامة بن لادن وقيادات تنظيم «القاعدة» فيها، وهو التنظيم الذي أعلن مسؤوليته عن «أحداث سبتمبر»، ولذلك لم يكن سهلاً في السنوات الأولى للحرب إقناع الأمريكيين وأعضاء الكونغرس بصواب قرار سحب القوات من أفغانستان قبل القضاء على حركة طالبان التي كانت تدعم ابن لادن و«القاعدة»، ووفّرت لهما ملاذاً آمناً قبل سبتمبر 2001، إضافةً طبعاً إلى أهمّية الموقع الجغرافي لأفغانستان وجوارها لإيران ولباكستان، الدولة النووية، ولجمهوريات من الاتّحاد السوفييتي السابق، ولما فيها أيضاً من ثرواتٍ طبيعية.
ولكن رغم ذلك، فإنّ تداعيات حرب أفغانستان جعلتها تُشبه إلى حدٍّ كبير الحرب الأمريكية على فيتنام في حقبة الستّينيات من القرن الماضي، والتي سبّبت خسائر كبيرة للولايات المتّحدة، وانتهت بمفاوضاتٍ في باريس أدّت إلى الانسحاب الأمريكي وتسليم الحكم إلى من كانوا يحاربون أمريكا من ثوّار فيتنام الشمالية «فيتكونغ»، وإلى التخلّي عن حكومة فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن.
وهذه هي الحرب الثانية، بعد العراق، التي «تخسرها» الولايات المتحدة في هذا القرن الجديد، ولكن من دون أن يؤثّر ذلك في القوّة العسكرية الأمريكية المنتشرة في العالم، وفي تفوّقها النوعي والكمّي على أيّ دولةٍ أخرى، فما زالت الميزانية العسكرية الأمريكية هي الأضخم بنسب كبيرة مقارنة بميزانيات الدفاع لدى القوى الكبرى الأخرى، فالميزانية العسكرية الأمريكية نحو 10 أضعاف الميزانية الروسية، ونحو أربعة أضعاف الميزانية الصينية. ولم تكن خسارة أمريكا في فيتنام مبرّراً لخفض الإنفاق الأمريكي على المؤسّسة العسكرية أو سبباً لانسحاب أمريكا من الأزمات العالمية أو لعدم خوض حروب جديدة. وقد رصدت إدارة بايدن أكثر من 730 مليار دولار لمصلحة ميزانية «البنتاغون»، وهو أكبر مبلغ يُخصّص لهذه المؤسّسة منذ تأسيسها.
فامتعاض المؤسّسة العسكرية الأمريكية من قرارات ترامب سابقاً، وبايدن حالياً، بالانسحاب من أفغانستان لم يؤثّر في زيادة حجم ميزانية المؤسّسة، التي ترى أنّ أولوياتها هي الآن تجاه روسيا والصين ومحاولة التنافس معهما على الأرض والفضاء معاً، وما يعنيه ذلك من تطوير ضخم لنوع السلاح الأمريكي ولضمان تفوّقه وانتشاره في أرجاء العالم كلّه.
«حركة طالبان» لم توقف عملياتها العسكرية ضدّ الأمريكيين طيلة العقدين الماضيين، وتسبّبت في قتل أكثر من 3000 جندي أمريكي، وجرح أكثر من 20 ألفاً في أفغانستان منذ عام 2001، كما قدّرت الإدارة الأمريكية تكلفة الحرب الأفغانية بنحو 1000 مليار دولار، ورغم ذلك، تتفاوض معها الولايات المتحدة أكثر من عامين من دون الحصول على أي تنازلات من «طالبان»، فالحد الأقصى الذي تطمح إليه إدارة بايدن هو سحب القوات الأمريكية وبعض المتعاونين معها بأمن وسلام.
الحرب الأمريكية على أفغانستان في نهاية عام 2001، ثمّ الحرب على العراق في مطلع عام 2003، وما رافق هاتين الحربين من انتشار عسكري أمريكي في دول الشرق الأوسط، ثمّ التوسع الأمني والعسكري للولايات المتحدة في عدّة دول أفريقية، ثمّ التدخّل العسكري في ليبيا وسوريا والعراق، تحت ذرائع مختلفة، كان أبرزها في السنوات الماضية شعار «الحرب على الإرهاب».. كلّها كانت أعمالاً عسكرية من أجل خدمة رؤية أو استراتيجية سياسية لها مضامين أمنية واقتصادية، وما زالت محاولات التوظيف الأمريكي لهذه الحروب مستمرّة رغم تغيّر الإدارات في واشنطن، ولعلّ أبرز الأهداف ضمان استمرار التحكّم الأمريكي في أهم مصادر الطاقة الدولية عقوداً عديدة قادمة، وخاصةً أنّ المنافسين الجدد للقطب الدولي الأعظم ما زالوا يعتمدون في نموّ اقتصادهم على الطاقة المستخرجة من منطقة الشرق الأوسط.