ما حدث في مدينة بافلو بولاية نيويورك الأمريكية من قتل عشوائي إجرامي لمواطنين أبرياء من ذوي البشرة السوداء، ليس هو بالأمر العابر أو مجرد جريمة اقترفها شاب أبيض يعاني من عقدٍ نفسية. فهذا النموذج من الإرهاب الدموي العنصري تكرر في أمريكا بمدن مختلفة خلال السنوات الماضية، وأصبح ظاهرة عنفية لما هو كامن في المجتمع الأمريكي لقرونٍ طويلة من عنصرية بيضاء بغضاء لا تريد التكيف مع حاضر المجتمع الأمريكي القائم على التنوع العرقي والديني والثقافي، والذي لم يعد مقبولاً فيه ما كان في تاريخ أمريكا من مفاهيم وممارسات عنصرية.فالولايات المتحدة نشأت تاريخياً على أيدي أوروبيين بيض مارسوا العنف والقتل ضد أصحاب الأرض الشرعيين الذين اصطلح على تسميتهم بـ«الهنود الحمر»، ثم استحضر المهاجرون الأوروبيون أعداداً كبيرة من الأفريقيين واستعبدوهم لقرونٍ طويلة بعد أن ثاروا على التاج البريطاني بقوة السلاح ليقيموا دولتهم الخاصة والتي تألفت بداية من ثلاث عشرة ولاية، كانت هي أصلاً مستعمراتٍ بريطانية على الساحل الشرقي لأمريكا.

وتأسس أول مجتمع أمريكي على ما يعرف اختصاراً بأحرف: WASP والتي تعني «الرجال البيض الأنجلوسكسون البروتستانت»، وهم الذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضد الأفريقيين المستحضرين للقارة الجديدة، إلى حين تحريرهم قانونياً من العبودية على أيدي الرئيس إبراهام لنكولن في نهاية القرن التاسع عشر، بعد حربٍ أهلية طاحنة مع الولايات الجنوبية التي رفضت إلغاء العبودية في أمريكا.

حتى الدستور الأمريكي العظيم الذي جرى إقراره في العام 1789، كان المعني فعلاً بالحقوق الواردة فيه، هم الرجال البيض (دون النساء) والذين يملكون الأرض ويمارسون استعباد وتسخير الأفارقة المستوردين بالقوة. وقد استمرّ التمييز الديني والعرقي في الولايات المتحدة حتّى أواخر القرن العشرين، وشهدت طوائف مسيحية كاثوليكية إيرلندية ممارسات عنف وقتل ضد أتباعها من المهاجرين الجدد لأمريكا إلى حين مطلع القرن الماضي، كما استمر التمييز العرقي ضدّ الأميركيين الأفارقة في مختلف مجالات الحياة والعمل حتّى حقبة الستّينات، حيث جرى إقرار قوانين تمنع حالات التمييز ضدّهم قانونياً، لكن المرض العنصري هو في النفوس وليس في النصوص.

وقد فشل القس جيسي جاكسون في القرن الماضي بالحصول على دعم الحزب الديمقراطي له بالترشّح لانتخابات الرئاسة لأنّه أمريكي أسود، رغم موقعه الديني المسيحي وجذور عائلته العميقة في أمريكا. وكان جون كنيدي أوّل رئيس كاثوليكي للولايات المتحدة الأمريكية (1961 - 1963)، ولم يأتِ بعده كاثوليكي آخر للرئاسة الأمريكية إلى حين انتخاب جوزيف بايدن في العام 2020!.

لذلك كان وصول باراك حسين أوباما، الأمريكي الأفريقي، ابن المهاجر المسلم، للرئاسة الأمريكية في العام 2008 وفي العام 2012، صدمة كبيرة لمن يمكن وصفهم بالأصوليين الأمريكيين «الواسب»، الذين يريدون الحفاظ على هُوية أمريكا «الأوروبية البيضاء المسيحية»، والذين كانت ردود أفعالهم السلبية مساوية في قوّتها لفعل المعنى الإيجابي بانتخاب أوباما من قبل غالبية تشكّلت من مزيج ضمّ يساريين بيضاً معظمهم من الشباب والمثقفين والفنانين، وأصوات معظم الأمريكيين الأفارقة، وكتل شعبية ضخمة من المهاجرين الجدد من أمريكا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط. ولذلك أيضاً، كان فوز دونالد ترامب فيما بعد صدمة معاكسة للصدمة التي جرت حين فاز أوباما.

الظاهرة العنصرية في أمريكا الآن هي متجددة ومتطورة ضد كل أنواع المهاجرين الجدد من غير الأصول الأوروبية، فهي عنصرية شاملة حاليا للأقليات ذات الأصول الدينية الإسلامية واليهودية، وللأقليات المختلفة ثقافياً ولغوياً كالقادمين من أمريكا اللاتينية ومن شرق آسيا. «الأصوليون الأمريكيون» يعلمون تماماً ما جرى نشره في مطلع هذا القرن من إحصاءات ودراسات تؤشر كلّها إلى تغيير ديمغرافي مهمّ يحدث في الولايات الأمريكية، وينبئ بتحوّل العرق الأبيض إلى أقلّية في المجتمع وإلى هيمنة واسعة لثقافات ولغات غير الأصول التي نشأت عليها أمريكا.

وهذه العناصر مجتمعة: التغيير الديمغرافي والعنصرية العرقية المتجذرة والهجرة لأمريكا من أديان ومذاهب وثقافات مختلفة عن «الأصول الأمريكية»، كانت هي وراء فوز ترامب في العام 2016، وهي مستمرة الآن كقوة دعمٍ له رغم كل ما عليه وحوله من قضايا قانونية، وهي العناصر التي فرضت نفسها على الحزب الجمهوري وعلى أعداد كبيرة من المستقلين غير الحزبيين.

فالتطرّف هو الذي يسود الآن في المجتمع الأمريكي ولن يتراجع في القريب العاجل، بل ربّما سيزداد قوّةً خلال الانتخابات القادمة في نوفمبر وبعدها، عِلماً أنّ التطرف يؤدّي أيضاً إلى استخدام العنف المسلّح، كالذي جرى من حوادث إرهابية محلية في ولايات عدة ضد أقليات دينية وعرقية وإثنية. فحق اقتناء السلاح في أمريكا أمر لا رجعة عنه، وقد ارتفعت نسبة شرائه في السنوات الماضية، ما ينذر بممارساتٍ عنفية أكثر في المرحلة المقبلة.

 

* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن