ليست هذه هي المرة الأولى التي أحضر فيها «القمة العالمية للحكومات» في دبي، لكن أعتقد جازماً بأنها الدورة الأكثر نجاحاً ولفتاً للأنظار واستثماراً للنقاش في العديد من الموضوعات والقضايا التي تهم غالبية دول العالم، وليس المنطقة العربية أو الشرق الأوسط فقط.

هذه القمة صارت معلماً أساسياً من معالم العمل العام في المنطقة، فيها يلتقي الرؤساء والملوك ورؤساء الوزراء والوزراء ورؤساء الشركات العالمية الكبرى والمفكرون والخبراء والإعلاميون والمؤثرون ليناقشوا ما يمكن وصفه بأنه «جدول أعمال للمنطقة» في المستقبل.

وفي الدورة الأخيرة التي استمرت ثلاثة أيام من 13 - 15 فبراير الجاري، كان هناك 20 رئيس دولة وحكومة و250 وزيراً وعشرة آلاف من كبار المسؤولين الحكوميين وممثلي 80 منظمة عالمية.

يحتار المراقب هل يصنف هذه القمة اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية أم ماذا؟!

شخصياً كنت أظنها اقتصادية فقط حتى دورات قليلة مضت، لكن شيئاً فشيئاً أدركت أنني كنت مخطئاً بعد أن رأيت أنها تناقش كل الموضوعات والقضايا في كل المجالات المختلفة، التي تهم البشر، وحسب التعبير الذي استخدمه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، عبر منصة «تويتر»: إن القمة العالمية للحكومات في دبي «تستعرض أبرز التحديات العالمية الحالية والمستقبلية وأفضل سبل تطوير الأداء الحكومي والمؤسسي.. نهدف في دولة الإمارات إلى الإسهام في خدمة البشرية لمستقبل أكثر تطوراً ورخاءً وازدهاراً».

كذلك قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، عبر منصة «تويتر» صبيحة القمة: إن «القمة العالمية للحكومات تنطلق من دولة الإمارات برسالة واحدة.. استشراف المستقبل والبحث في فرصه وتحدياته.. ومحاولة رسم خارطة طريق إيجابية لتطوير الحكومات حول العالم..».

المعروف أن القمة تستعرض أبرز التحديات الحالية والمستقبلية، ومن الطبيعي أن تركز على أفضل سبل تطوير الأداء الحكومي والمؤسسي، باعتباره الهدف الرئيسي من وراء فكرة وفلسفة هذه القمة الدورية.

ما نراه على أرض الواقع أن هذه القمة صارت تركز على قضايا مختلفة، إضافة إلى تطوير الأداء الحكومي، باعتبار أن المجالات كلها متداخلة ومتشابكة، وتؤثر في بعضها البعض. ما سبق ليس كلاماً إنشائياً، بل لمسته بنفسي من خلال الموضوعات التي تمت مناقشتها في الجلسات المختلفة، ونظرة بسيطة على جدول اليوم الثاني للقمة فقط يؤكد صحة ما أقول، فقد كانت هناك جلسة رئيسية تحمل عناوين متعددة تدور حول الابتكار، مثل: «نحو مستقبل يقوده الاقتصاد المبتكر»، وبعدها جلسة بعنوان «الازدهار من خلال الإبداع.. فن تشكيل المحتوى من صانعيه»، وجلسة ثالثة بعنوان «كيف توازن الحكومات بين تمكين الابتكار وحوكمة التكنولوجيا؟»، و«نهاية العولمة أم بداية جديدة لها؟!».

قد يقول قائل: لكن العناوين الماضية مرتبطة بالاقتصاد، فما الجديد؟!

الإجابة ببساطة أن الندوات والمؤتمرات في معظمها لم تكن تركز على الموضوعات والقضايا الكلاسيكية، بل نحن بصدد ربط كل القضايا معاً، وهكذا وجدنا عناوين مختلفة أيضاً تتحدث عن «حماية البيانات الشخصية مسؤولية الحكومات أم الشركات؟».

كان هناك أيضاً محور حول «مستقبل الصحة وجودة الحياة»، و«الاستدامة الصحية».

ومن الابتكار إلى الإعلام الذي حظي بنصيب مهم من النقاشات، فقد رأينا عناوين جلسات حيوية، مثل: «الإعلام العربي بين التجديد والتقليد»، إضافة إلى عنوان شيق آخر، هو: «كيف يمكن للحكومات أن تنافس القطاع الخاص في الإبداع والتسويق؟».

وليس بعيداً عن الاقتصاد والأداء الحكومي مناقشة سبل تطوير الإدارة، ولفت نظري جلسة مهمة عنوانها: «كل ما تحتاج معرفته لتصبح قائداً ناجحاً». وثَمّةَ محور مهم أيضاً عن «مستقبل التنمية الاجتماعية»، وجلسة أخرى عنوانها: «العمل الإنساني.. فرص جديدة لاستدامة العطاء».

وكان محور التعليم ومستقبله حاضراً بقوة من خلال جلسات مثل: «مستقبل التعليم العالي والتعلم مدى الحياة»، و«مستقبل التقييم في التعليم المبتكر».

ولم تغب قضايا المناخ عن هذه القمة العالمية، بل حضرت بقوة، ليس فقط لأهميتها، بل أيضاً لأن الإمارات هي التي ستستضيف وترأس قمة المناخ العالمية أو «كوب 28» في الشتاء المقبل، وهكذا رأينا جلسات مهمة بعناوين متنوعة، مثل: «المسار نحو مؤتمر الأطراف»، وكان هناك أيضاً جزء مهم للقضايا الأفريقية، حيث تحدث الرئيس السنغالي ماكي سال، كما تحدث رئيس موريشيوس، إضافة إلى كلمة فيديو للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تعذر حضوره بسبب الزلزال المروع الذي ضرب بلاده الأسبوع قبل الماضي، وبالطبع فإن الأضواء في اليوم الأول ذهبت إلى الجلسة الحوارية الأساسية، التي كان ضيفها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

لاحظوا أنني لم أتكلم إلا عن عناوين سريعة جداً لليوم الثاني، ولم أتناول اليوم الأول بكل حيويته، أو حتى أناقش مضمون هذه الجلسات ومحتواها، وكل واحدة منها تستحق مقالاً طويلاً مفصلاً، وهو ما يستحق نقاشاً معمقاً لاحقاً. النقطة الأساسية أن القمة العالمية للحكومات صارت المنتدى العالمي، الذي يناقش غالبية القضايا التي تهم العالم، مثله مثل منتدى دافوس، الذي يركز على الاقتصاد العالمي ومستقبله أكثر.

 

*رئيس تحرير صحيفة الشروق المصرية