يُروى أنّ أبا الجهم العدوي، رضي الله عنه، عزم على بيع داره بمائة ألف درهم إلى رجل، وكان سعيد بن العاص، رضي الله عنه، مجاوراً له، فلما أحضر المشتري المال قال له: «هذا ثمن الدار، فأعطني ثمن الجوار»، قال: «أي جوار؟»، قال: «جوار سعيد بن العاص»، قال:

«وهل اشترى أحد جواراً قط ؟»، فقال له أبو الجهم: «رُدَّ عليَّ داري، وخُذْ مالك، لا أدعُ جوارَ رجل إن قعدت سأل عني، وإن رآني رحب بي، وإن غبت عنه حفظني، وإن شهدت عنده قربني، وإن سألته قضى حاجتي، وإن لم أسأله بدأني، وإن نابتني نائبة فرّج عني»، فبلغ ذلك سعيداً فبعث إليه مائة ألف درهم، وقال: «هذا ثمن دارك، ودارك لك».

عندما نقرأ مثل هذه الأمور نُعيد أنفسنا كعرب ومسلمين إلى وضعية «إعدادات المصنع» التي يُفترَض أننا جُبِلنا عليها ولا يُتوقَّع مِنّا إلا مثلها وما يجري في سياقها، فالعربي كان صاحب مروءة وكرم ونجدة وصِدْق كلمة ووفاء عهد، ولما أتى الإسلام أكمل تلك المنظومة الراقية وعزّزها، وقال صلى الله عليه وسلم، مقولته المشهورة:

«إنّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارم الأخلاق»، لذا قامت هذه الأمة على توحيد الله سبحانه وإفراده بالعبادة وعلى خلفية عريضة من الأخلاق والمثل والمبادئ العليا، فقدمت للبشرية حضارة تقوم على إعلاء الروح وتهذيب النفس، والعمل على تحقيق الخيرية الممكنة، وكشفت بنزعتها وانتصارها للخير المطلق عوار الحضارات الأخرى ممن أتى قبلها وممن جاء بعدها.

حيث لا ربَّ بالفعل إلا المال أو القوة، ولا قانون إلا قانون السلطة والغلبة، ولا قيم إلا ما يُضحَك به على البلهاء، بينما أياديهم تسرق لُقمة الفقير وتستبيح حقّه!

أقول هذا والصدر مختنق مما رأيت وأرى في التيك توك وسناب وإنستغرام من انحدار في الأخلاق وضياع للقيم وانعدام للحياء عند مجموعة من اليافعين واليافعات بدأوا في التزايد بالتدريج عندما لم يجدوا من يوقف أو يوبّخ أوائلهم «وليس بينهم أوائل»، فأصبح استعراض الأجساد «على قفا من يشيل» والجرأة الوقحة في الكلام لا نهاية لها، ومَن انصدم من واقعة الجمهور الذي حضر إحدى الحفلات الغنائية مؤخراً وما فُجِع به من رؤيته لشباب ذكور يرقصون بطريقة ربما لا تُتقنها فيفي عبده نفسها، عليه أن يراجع نفسه.

فمثل هذا الخروج السافر عن القيم لم يأتِ مُصادفة، وإنما تدرّج في الجرأة وتساهل في ترك منصات «المقاصل» الاجتماعية لتسوّق وتروّج كل أنواع الابتذال وتُعَنْوَن أشدها ابتذالاً بأنها الـ«ترند» مما يضيف لها زخماً أكبر من المشاهدات!

الغرب ليس لديه ما يخسره، فضياعه وسقوطه الأخلاقي أصبح عسراً على العلاج، لكن مجتمعاتنا ستنهار سريعاً إنْ تُرِك الباب مفتوحاً على مصراعيه، فنحن نحاول أن يكون لنا موضع كبير في قادم أيام المدنية الإنسانية بما يخص المنجز الحضاري، لكن هذا الموضع قد يصبح بعيد المنال إن استشرت في قطاعات الشباب هذه الانتكاسة، فلن يصل بك القمّة من يختار طوعاً الانجراف للقاع!

هذا أوان أن نفيق وأن نُعيد تقديم القدوات الصالحة للفئات اليافعة، فالصغير يعشق المحاكاة ويشعر برغبة عارمة بأن يمضي مع «التدفق» الذي يراه أمامه، فإنْ لم يجد سوى الفاشلين والراقصين وسليطي الألسن أمامه، فلا نتوقع أن يخرج لنا أبو عبيدة بن الجراح أو أسماء بنت أبي بكر، من سنراه لاحقاً هو امتداد لذات الفئات الفاشلة، ولكن مع جرأة أكبر حتى تلتفت له الأعناق ويبدو مختلفاً عمّن تشبّه به وتأسى!

البعض الذي يفهم الإيجابية بطريقة مقلوبة سيخرج وهو يقول هم صغار ودعوهم يستمتعون بالحياة و«لاحقين على التعقيد والتنغيص»، وكأن من يعنيهم قد اخترعوا مركبات الفضاء وهم يحاولون الاستمتاع في وقت فراغهم، بينما الواقع أنهم عبء على مستقبل أي وطن، ورهان خاسر إن لم يتم تدارك الوضع ووضع حلول حازمة له، ولئن كان المنصب في الماضي هو من يجعل الشخص بموضع الأهمية، فإنه بهذه الأيام قد أصبح لدى بعض السفهاء والفاشلين ملايين المتابعين.

الأمر الذي يجعل ما يقوله أو يفعله ينتشر كانتشار النار بالهشيم بين فئات الصغار، وهذه هي الداهية الدهياء التي لا بد من إيجاد حل لكبحها قبل أن يفسد هؤلاء مستقبل الأوطان، ورضي الله عن عمرو بن العاص وهو يقول: «موتُ ألفٍ مِن العِلْية أقل ضرراً مِن ارتفاع واحدٍ مِن السفلة»!

* كاتب إماراتي