لا يجادل أحد ولا يشكك في المكانة العظمى للولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، ولا في صلتها الوثيقة بقدر أو آخر، بالكثير من القضايا التي تعتمل داخل أو فيما بين عناصر هذا النظام.

ومع ذلك، هناك شبه إجماع بين فقهاء العلاقات الدولية، على أن ما تنشغل وتهتم به مؤسسات الحكم والإدارة في واشنطن على صعيد السياسة الخارجية، لا يقع بالمطلق ضمن أولويات اهتمامات سواد الأمريكيين. مفارقة كهذه تبدو مثيرة للاستغراب والدهشة.

المواطن الأمريكي يعني، قبل أي شيء، بالشؤون والشجون الموصولة بدواليب حياته ومعيشته الشخصية والمجتمعية، داخل جدران الدولة.. من قبيل دور الحكومة الفيدرالية مقابل أدوار سلطات الولايات والمحليات، معدلات الازدهار أو النكوص الاقتصادي، الضرائب، البطالة، القوانين المتعلقة بالضمان الصحي والحماية الاجتماعية والحقوق والحريات العامة والخاصة واستقلال القضاء..

ولا يترك الانغماس الشعبي المفرط في هذه السياقات سوى هوامش ضيقة، للوقوف عند ما يجري على ضفة التعاملات الخارجية، وبين ما يستحق الانتباه. عربياً على الأقل، أن السياسة الأمريكية الشرق أوسطية، وعلى رأسها العواطف الجياشة المرتبطة بإسرائيل، لا تحظى باستثناء لافت في هذا الإطار.

تتجلى هذه الحقائق وتطفو في مواسم التفضيلات والمنافسات الانتخابية الرئاسية والنيابية. وبيت القصيد هنا، أن تراتب الاهتمامات بين القضايا الداخلية والخارجية لدى جماعة الأمريكيين اليهود، لا يكاد ينحرف عن هذا النسق أو الاصطفاف العام..

بمعنى أن غالبية أصوات أعضاء هذه الجماعة (2 % من عدد السكان)، تتوزع وفقاً لمحددات تصويت مواطنيهم الأمريكيين.. فالناخب اليهودي، خلافاً للشائع، لا يمنح صوته بشكل حاسم بحسب مواقف المرشحين وأهوائهم تجاه إسرائيل.

غداة الانتخابات الرئاسية الأمريكية للعام 2020، كشف استطلاع أجرته منظمة «جي ستريت»، أن القضايا الرئيسية التي وجهت الأصوات اليهودية هي فيروس كورونا (54 %)، تغير المناخ (26 %)، التأمين الصحي (25 %)، الاقتصاد (23 %).. وأشار 5 % فقط إلى إسرائيل كأحد المواضيع التي تشغلهم أولاً، مقابل 9 % في انتخابات 2016 !.

رب قائل هنا بأن أكثر من ثلثي أصوات اليهود عادة ما تنحاز للمرشحين الديمقراطيين. هذا صحيح، لكن هذا السلوك لا يختص به اليهود وحدهم، وإنما يسم توجهات معظم الناخبين غير البيض من ذوي الخلفيات الأقلوية، كالأفارقة الزنوج والملونين والهنود والآسيويين والمسلمين والعرب..

نتأكد أكثر من هشاشة المحدد الإسرائيلي في خيارات الأمريكيين اليهود، الانتخابية بالذات، عند تأمل ما كان من أمرهم مع دونالد ترامب.. فهذا الرجل كان الأمريكي الوحيد الذي أوفى بكل وعوده الانتخابية لإسرائيل بعد أن تسيد البيت الأبيض..

إذ اعترف بسيادتها على الجولان المحتل، وأقر بالقدس عاصمة لها ونقل سفارته إليها، واتخذ من رئيس وزرائها نتنياهو ولياً حميماً مسموع الكلمة، وتجاوب مع رغبتها في إلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وأغلق الممثلية الفلسطينية في واشنطن، ودعا إلى تصفية وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «أونروا».. وعلى الرغم من هذه العطايا ونحوها، صوت 77 % من اليهود في انتخابات 2020 لصالح منافسه بايدن!.

واقع الحال أن الأمريكيين اليهود ليسوا سواء ولا يمثلون كتلة سياسية صماء، بيد أن قطاعات كبيرة منهم، تعارض أحقية إسرائيل في التعبير عنهم والتحدث باسمهم.. ومن أراد مقاربة نوازعهم وانحيازاتهم ومواقفهم إزاء عوالم الآخرين، فليتحر ذلك في غمار ما يحرك سائر دوائر المال والأعمال الأمريكية، بمعزل نسبي واسع عن العواطف اللاهوتية.

داني دانون، مندوب إسرائيل السابق لدى الأمم المتحدة، وضع إصبعه تماماً على هذا القصد حين قال «إن أموال اليهود في أمريكا أهم من أصواتهم».

تقديرنا أن حرب غزة الجارية أفصحت جهرة عن الوحش الكاسر الرابض في تضاعيف إسرائيل، الدولة التي تدعي أنها مرجعية اليهود.. ذلك الوحش الملتاث الذي لم يبد، في حربه على الفلسطينيين، اكتراثاً بأية ضوابط أخلاقية أو قانونية تتفق مع شرائع السماء والأرض.

اعتماداً على كثير من المؤشرات والمعطيات الأولية، نحسب أن هذا المشهد الصادم راح يؤسس لردود أفعال ستتصاعد وتيرتها لدى غالبية الأمريكيين اليهود، القوى الشابة منهم بخاصة. وهي ردود تنطلق راهناً، وسوف يتسارع انطلاقها مستقبلاً، في اتجاهين متضافرين:

أولهما، زيادة الاهتمام بالمؤثر الإسرائيلي في سياسة واشنطن الخارجية. ثانيهما، وهو الأهم، الابتعاد بمسافة أكبر عن هذا المؤثر، وتسخيف مزاعمه والتبرؤ من أفاعيله..

كونه بتعبيرات بعضهم يوغل في انتهاك القيم الليبرالية والحقوقية والإنسانية السوية، وذلك بحيثيات قد تفضي إلى دفن النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط والبحرين المتوسط والأحمر، وينبغي وضعه تحت مبضع الانتقاد والتخلي عن دعاوى تقديسه.