Al Bayan
today-time05 ذو القعدة 1446 هـ ، 3 مايو 2025 م
prayer-time

رؤى الإمارات وفرنسا.. شكراً محمد بن زايد

يبدو أن العالم أجمع قد لفت انتباهه كيف أن الإمارات تُعيد تشكيل صناعة المستقبل وفق رؤية استباقية يقودها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله ورعاه، إذ يتجاوز التفكير الاستراتيجي حدود الاقتصاد والسياسة ليشمل الذكاء الاصطناعي باحتسابه محركاً رئيساً للعصر الجديد.

وهي رؤية تجمع بين الطموح التقني والريادة في مجال الحوسبة المتقدمة، وتسعى أن تؤسس لمرحلة جديدة من الوعي الإنساني الذي يطوّع التكنولوجيا ويستفيد من تطوراتها لخدمة الأمم والشعوب والمجتمعات.

استثمار الإمارات في الذكاء الاصطناعي لا يُقاس فقط بالأرقام الضخمة التي تُرصد له، بل أيضاً بما يُحققه من تحولات جوهرية في بنية المجتمع والدولة والعالم. اتفاقية الشراكة الإماراتية – الفرنسية لإنشاء مجمع عملاق للذكاء الاصطناعي، باستثمارات تصل إلى 50 مليار يورو، هي خطوة اقتصادية واسعة، وهي أيضاً إعلان عن توجه استراتيجي يرسم ملامح المستقبل، إذ تصبح البيانات والقدرات الحوسبية ركيزة جديدة للنهضة الإنسانية. وهذا المشروع يرسّخ الإمارات قوة تقنية عالمية منافسة متقدمة.

أمام هذا المشهد الذي لا يُنسى، وكوني متخصصة في مجالات الثقافة والتراث والهوية، يخطر ببالي اليوم: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يكون حاملاً للهوية بدلاً من أن يكون عاملاً يُهددها؟

لطالما كانت العلاقة بين التكنولوجيا والثقافة معقدة، إذ تخشى المجتمعات أن تؤدي التحولات الرقمية إلى إضعاف القيم التقليدية، ولكن الإمارات، برؤية قيادتها الحكيمة الرشيدة، تقدم نموذجاً مختلفاً سيُحوّل الذكاء الاصطناعي من تهديد محتمل إلى فرصة فريدة في المجالات كافة ومنها حفظ التراث وتعزيزه إذ يمكن لهذا المجال أن يُستخدم لإنشاء منصات ذكاء اصطناعي ثقافية تعمل على توثيق وحفظ العادات والتقاليد الإماراتية، فتصبح الذاكرة الجمعية أكثر تفاعلاً وأقل عرضة للنسيان.

إذا عدنا للمفكر الفرنسي «بول ريكور»، وهو أحد أبرز فلاسفة التأويل والهوية، فإنه يطرح في كتابه (الذات عينها كآخر) فكرة عميقة عن العلاقة بين الهوية والسرد، فيرى أن الهوية لا تتشكل فقط مما نعيشه، بل أيضاً من القصص التي نرويها عن أنفسنا. وهذه الفكرة تكتسب أهمية مضاعفة في عصر الذكاء الاصطناعي، فلم تعد السرديات مقتصرة على البشر، بل أيضاً أصبحت الخوارزميات قادرة على إعادة تشكيلها والتأثير فيها.

اختيار فرنسا لتكون شريكاً استراتيجياً للإمارات في هذا المشروع لم يأتِ من فراغ، بل يستند إلى إدراك عميق أن باريس، بتاريخها العلمي والثقافي، تُمثل بيئة مثالية لبناء تعاون يجمع بين التقنية والفكر. ومع التوسع المستمر للذكاء الاصطناعي، تظهر فرص غير مسبوقة لاستخدامه كأداة لإعادة تعريف العلاقة بين التراث والتكنولوجيا.

ويمكن تصور عدة مشاريع مبتكرة في هذا المجال، مثل وضع مشروع لـ«متحف افتراضي للذكاء الاصطناعي»، حيث يمكن للزوار من أنحاء العالم التفاعل مع شخصيات تاريخية إماراتية عبر نماذج ذكاء اصطناعي متطورة، ما يُعيد إحياء التاريخ بأسلوب رقمي يُناسب العصر الحديث، ومشروع «المترجم الثقافي الذكي»، حيث يُمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي أن توضح للسياح والمقيمين معاني التقاليد الإماراتية بطرائق تفاعلية، ما يُعزز الوعي الثقافي ويُسهم في بناء جسور بين المجتمعات.

وكذلك ما زلت مُصرّة على أهمية بناء «أرشيف رقمي للتراث الشفهي»، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي جمع وتحليل الروايات الشعبية والأهازيج القديمة كلها، ما يُسهم في حفظها للأجيال القادمة بطريقة حيوية تفاعلية، ويمكنني أيضاً اقتراح إعادة بناء «المدن القديمة بتقنية الواقع المعزز» حيث تُتيح إعادة تصور الحياة في الإمارات في العصور الماضية عبر تجارب تفاعلية تدمج الذكاء الاصطناعي في التاريخ.

الإمارات، عبر مشاريع الذكاء الاصطناعي عموماً والمجال الثقافي تحديداً، ستعمل على حفظ تراثها، وتقدم صوغ روايتها الثقافية وسرديتها بنفسها، فيكون التراث أيضاً تجربة حية تتطور مع الزمن.

إذ يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي أداة لإثراء الهوية الثقافية، عبر تحليل النصوص القديمة، وإعادة سرد التاريخ بطرائق جديدة مع المحافظة على المحتوى الأصيل العريق، وتطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على إنتاج هذا المحتوى بطريقة تبرز الهوية الإماراتية، مستلهماً من سرديات الماضي ومستشرفاً المستقبل.

رؤى صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حفظه الله ورعاه، لا تقتصر على الاستثمار في التقنية، بل أيضاً تشمل بناء منظومة فكرية تُدرك أن المستقبل ينتمي إلى من يمتلك القدرة على التحكم في البيانات وإدارتها بحكمة، ولمن يستطيع أيضاً أن يُحافظ على هويته في عصر الرقمنة. هذه الرؤية تجعل الإمارات في موقع ريادي، سواء في سباق الذكاء الاصطناعي، وفي صوغ مفهوم جديد للأمن الثقافي الذي يضبط التوازن بين الحداثة والأصالة.