قد يظن البعض أن المقصود بالثقافة السياسية، درجة وعي الناس في مجتمع معين بالسياسة، سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية. لكن مفهوم الثقافة السياسية في أدبيات العلوم السياسية، يشير إلى الشعور الوجداني للأفراد تجاه السياسة عموماً.
وينبع الشعور الوجداني للأفراد من مصابّ مختلفة. فالتنشئة الاجتماعية والسياسية تصوغ الحالة الوجدانية للأفراد والجماعات. الدين والقيم والعادات والتقاليد أيضاً، تشكل روافد للثقافة السياسية للمجتمع والأفراد.
يعرف عالم السياسة الأمريكي لوسين باي بان الثقافة السياسية «هي مجموعة القيم الأساسية والمشاعر والمعرفة والتي تقوم عليها العملية السياسية. ولذلك، فإن مكونات الثقافة السياسية هي المعتقدات والآراء والعواطف للمواطنين تجاه شكل حكومتهم».
ويمكننا فهم الكثير من السلوك السياسي في المجتمعات المتقدمة والمتطورة، بتحليل الثقافة السياسية لهذه المجتمعات. ففي الولايات المتحدة، فإن ما يسمى بالحزام الإنجيل، والذي يمتد في الجنوب الشرقي.
ويحتل جزءاً كبيراً من الولايات الجنوبية، يتسم بالقيم المسيحية المحافظة، والطوائف البروتستانتية، ونسب عالية بالصلاة في الكنائس، ومناهضة الإجهاض والزواج المثلي. كما أن مشاعرهم الوطنية هي الأعلى في الولايات المتحدة. وكانت تاريخياً الولايات التي دخلت في الحرب الأهلية للدفاع عن العبودية.
ويتأثر هؤلاء في سلوكهم السياسي بهذه القيم، وتراهم يصوتون للحزب الجمهوري بشكل كبير، على أساس أن الحزب الجمهوري يتبنى كثيراً من هذه القيم الدينية والمحافظة.
ويرى الكثير منهم أن الرب بعث بالرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب—رغم عدم تدينه— لحماية المعتقد المسيحي، وحقوق البيض الذين بنوا الولايات المتحدة.
ويقابل هؤلاء سكان الشمال الشرقي، معقل الليبرالية الأمريكية، والموطن الأصلي الذي انطلقت منه الدولة الأمريكية، وتوسعت لتشمل الغرب الوسط والغرب والجنوب الغربي للولايات المتحدة.
الميراث الديني له وجود في المجتمع الأمريكي بشكل عام. إلا أن الدين يلعب دوراً أقل في الشمال الشرقي وغربي الولايات المتحدة. وترى هذه الولايات المنفتحة على حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية وحق المرأة في الاختيار في الإنجاب أو الإجهاض.
كما أن القيم العلمانية متفشية في هذه الولايات. وترى السلوك السياسي لهذه الولايات مختلفاً في تصويتها للحزب الديمقراطي، والذي يعتبر الوريث للقيم الليبرالية.
ورغم التباينات الاجتماعية والجغرافية للمجتمع الأمريكي، إلا أنهم يشتركون في قيم متعددة، وإن اختلفوا في تفسيرها. من أهم هذه القيم، الحرية. خاض الأمريكيون حروباً عدة للمحافظة على هذه القيمة.
يقول الكاتب الأمريكي الموهوب هيرمان ميلفيل (1819-1891): «نحن الأمريكيون، الشعب المختار—إسرائيل عصرنا، نحن نحمل السفينة الحامية لحريات العالم».
لا يعكس هذا مجرد تباهٍ، بل شعور وجداني عميق. الحرية كقيمة ليس عليها اختلاف. حدود هذه الحرية يختلف عليها الأمريكيون من رقعة جغرافية إلى أخرى، ومن طبقة اجتماعية ونقيضها، ومن إثنية إلى أقرانها.
ومن الحرية تتفرع قضايا عديدة داخل المجتمع الأمريكي. ومن الحرية تأتي حرية الأسواق، وحق كل أمريكي أن يتملك ويزيد من ممتلكاته. ومن الحرية تنبع حرية القول والعمل، وحرية عقد الاجتماعات، وحريات أخرى عديدة.
أما قيم مثل العدالة والمساواة فهي قيم تخضع لمعيار الحرية. فكل فرد مسؤول عن نفسه، ومنه تنبع الفردانية، والتي تعتبر من الضرورات للمجتمع الأمريكي والتطور الرأسمالي. المساواة مكانها تساوي الفرص بين الأفراد.
فليس من حق السلطة السياسية نزع ممتلكات الأخرى لإعطائها لمحتاج أو مستحق. ولكن الضمان أن يمتلك الجميع فرصاً متكافئة، ولا غرو أن الولايات المتحدة من أقل الدول المتقدمة مساواة.
وعلى أساس قيمة الحرية، وهي القيمة الضابطة للمجتمع، هناك سعي مستمر لتقليص حجم الحكومة. إذ إن الرؤية السائدة أن الحكومة ليست الحل لمشاكل المجتمع، بل جزء من المشكلة.
ولعل جاذبية الرئيس ترامب، هي في ترديده بأنه يجب تجفيف المستنقعات في واشنطن. ويعمد إيلون ماسك الآن، عضيد ترامب، إلى تفكيك المؤسسات الفيدرالية وقعرها من موظفيها كجزء من التطهير الوظيفي.